اذا كان (كما حاولت ان أوضح في الحلقة السابقة)، الانتصار في حرب السويس لحظة الوعد و الصعود، اللحظة التي جاء فيها العرب الى مصر – و خاصة الى جمال عبد الناصر – طالبون قيادته، و الأهم واضعون بين يديه، أحلام عن الوحدة و عن مشروع قومي يتعدى كل دولة عربية بعينها .. أحلام حولت مشروعه للتحرر و التنمية في مصر الى مشروع عربي، أخذ في سنوات قليلة سمة التاريخية، أي نما في مخيلة ملايين من العرب ليصبح نداء خارج من الوجدان ليلاقي طموحات كانت مطحونه لعقود، إذ لم يكن لقرون .. اذا كانت نهايات الخمسينات هي تلك اللحظة، فإن الستينات كانت لحظة الإمتحان .. هل سيستطيع المشروع – و الرجل الذي رأه العرب بطلاً تاريخياً – ان يحقق الطموحات.

وحدة مصر مع سوريا كانت السؤال الأول في الامتحان .. سوريا، او على الأقل الغالبية الساحقة من الطبقة الوسطى و اسفل الوسطى هناك، بالإضافة الى أهم القوى السياسية الشعبية، واقعيا رجت جمال عبد الناصر ان يقبل الوحدة. و عندما قبل، و توجه الى دمشق، جاء لاستقباله حشود و حشود – ملايين من البشر – رافعة صوره، هاتفة باسمه، و ناظرةً اليه (كما عبر نزار قباني بعد ذلك بسنوات) كما لو كان مسيحاً جديداً.

هذا مشهد يستحق التوقف امامه .. اذ انه من النادر جداً في التاريخ العربي (قديماً و حديثاً) ان نرى تدفق مشاعر حقيقي، غير مصطنع من أدوات دولة، و بهذا الحجم (من ملايين الناس)، نحو رجل واحد، جسد في مخيلتهم، معاني نبيلة و اهداف كبرى.

لكن بعد ان انتهت الاحتفالات، و انفضت التجمعات، و رجع ناصر الى مصر، ماذا حدث؟

من الصعب الفهم، لان أسلوب الإداء و طريقة الإدارة في كل ملف الوحدة المصرية-السورية، كان شديد الغرابة. بداية، جمال عبد الناصر أصر على الغاء كل الأحزاب السياسية قبل قبوله الوحدة، و قد كان. ثم كان ان اختار هو رجال محددين من مشاهير العمل السياسي في سوريا (ربما كان اهمهم، أكرم الحوراني) ليديروا سوريا تحت الوحدة. كما ان عبد الناصر اسهب في الحديث عن الوحدة كفكرة أكبر من مصر و سوريا. الرجل كان واضحاً للغاية في أن هدفه وحدة تضم دولاً عربيةً أخرى في المشرق و المغرب. و على ذلك، فإن الخطوة الأولى (الوحدة بين مصر و سوريا) اكتسبت أهمية خاصة، إذ أصبحت حجر الأساس للمشروع الأكبر: ذاك الحُلم الذي إئتمنه ملايين الناس عليه.

لكن عبد الناصر لا هو ادار سوريا، و لا ترك من اختارهم من الساسة السوريون يديروها. وضع عبد الناصر ثقته في صديق عمره، المشير عبد الحكيم عامر، و في رجل أمن سوري، هو السيد عبد الحميد السراج، ليمثلاه هناك .. و هنا اول الغرابة (و هذا وصف مهذب). ذلك ان كل ما كُتِبَ عن المشير عامر (سواء في مصادر غربية او عربية، بما فيه من أقرب المقربين من جمال عبد الناصر) يضع علامات تساؤل كثيرة جداً حول كفاءة و قدرات هذا الرجل. لكن بغض النظر عن التفاصيل (و فيها الكثير مما يُثير الذهول من الضحالة و ضعف الإدارة) فإن اختيار عبد الناصر كان دالاً عليه هو. عبد الناصر وضع من يثق به، و ليس من يظنه الأكفأ. كما انه اختار رجل الأمن و ليس السياسي، ليحكم باسمه. عبد الناصر أيضا ابعد تقريباً كل السياسيين السوريين بما فيهم هؤلاء الذين صاغوا فكرة الوحدة. و ربما الأكثر غرابة انه طيلة فترة الوحدة (على الأقل مما هو ظاهر من كتابات من عاشوا تلك المرحلة، خاصة من السوريين) لم يُظهِر اهتمام حقيقي بفهم طبيعة و مجتمع و الخصائص التاريخية لذلك البلد الذي جاءه راجياً الوحدة، و الذي كان، من المفترض، حجر الأساس مع مصر في مشروع الوحدة العربية.

لذلك لم يكن غريباً ان اختارت قيادة الوحدة وضع سياسات و طرق إدارة افقدتها بسرعة الكثير من رضا مجموعات كبيرة من الشعب السوري. كما انه أيضا لم يكن غريباً ان لا تبصر قيادة الوحدة حجم الغضب بين تجمعات من الضباط و رجال الأمن السوريون. و أخيرا، لم يكن غريباً ان تفشل الوحدة، و ان يتنهد كثير من المثقفين السوريون، بما فيهم قوميون عرب، الصعداء بعد انتهاء الرباط مع النظام الناصري في القاهرة.

المشكلة هنا أبعد من قلة خبرة و أكبر من تراكمات أخطاء في الاختيارات .. المشكلة ظهرت في أسلوب التفكير، في وضع الأولويات، و في القدرة على (و الرغبة في) فهم و استيعاب ما هو غريب و غير مألوف. و لذلك فإن الفشل في سوريا كان أكبر من خطأ .. كان اول خطايا مشروع جمال عبد الناصر.