السياسة العالمية للولايات المتحدة بين التغيير و التقليم
التغيير يعني الوصول الى الجذور، لكن التقليم يكون في الشكل. و بين الاثنيين هناك الآن صراع تصورات في دوائر الفكر في السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
لعل البداية الأفضل تكون في توضيح الإختلاف المهم بين السياسة الخارجية و السياسة العالمية. آي دولة في العالم لديها سياسة خارجية، لكن دول قليلة جداً لديها سياسة عالمية. الأهمية هنا تتخطى التعريفات، لأنها متعلقة برؤية الولايات المتحدة لدورها في العالم ككل.
يمكن القول انه حتى نهايات الثلاثينات من القرن العشرين، حتى بعد تجربة الحرب العالمية الأولى، لم يكن للولايات المتحدة سياسة عالمية، لانها بشكل رئيسي رأت دورها متعلق بملفات معينة و رأت مصالحها في نقاط محددة في العالم. الرؤية تغيرت تماماً مع بدايات الحرب العالمية الثانية. وقتها بدأ ارتباط المصالح الامريكية بنظام عالمي محدد يتبلور. و مع انتهاء الحرب كانت الولايات المتحدة قد وضعت لنفسها دورا في كل ارجاء العالم قائم على تصور نظام عالمي رأته ضروريًا للمحافظة على و توسيع مصالحها.
بالإضافة الى ذلك، خروج الولايات المتحدة ليس فقط كصاحبة الانتصار الأكبر في الحرب العالمية الثانية، و لكن أيضا كقوة اقتصادية مهيمنة على الاقتصاد العالمي، سهْل توسيع هذه المصالح، و من ثم كرس فكرة النظام العالمي.
الانتصار في الحرب الباردة أحدث تغييرات، و لكنها كانت في اتجاه توسيع المصالح الأمريكية و تكريس الدور الأمريكي في العالم ككل.
اليوم، لأسباب متعددة، منها صعود الصين و لكن منها أيضا صعود تيارات سياسية داخل الولايات المتحدة، و خاصة في الدوائر المحافظة القريبة من الحزب الجمهوري، هناك رؤية ان تكلفة إبقاء هذا النظام العالمي أصبحت اكبر من العوائد التي تحصل عليها الولايات المتحدة من المصالح التي يحافظ عليها هذا النظام.
لاحظ هنا ان هذه الدوائر ترى مصالح جديدة للولايات المتحدة خارج النظام العالمي المتعارف عليه منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. بعض هذه المصالح داخلة في العالم الغير ملموس (virtual world) و الكثير من نقاط القوة فيه داخل شبكات رقمية قليلة التأثر بالجغرافيا، و بعضها الأخر بدأ يظهر مع من يمكن ان يكونوا حلفاء جدد (و هنا احتماليات لعلاقات جديدة للولايات المتحدة خاصة في آسيا).
نقطة التكلفة مهمة في تفكير هذه الدوائر. ذلك لأن جزء مهم من عائدات المصالح الامريكية في هذا النظام العالمي كانت متمركزة في أوروبا و الشرق الأوسط. لكن الأثنيين، في وجهة النظر الامريكية، في تراجع من ناحية القيمة الاستراتيجية – الأولى بسبب الأهمية الاقتصادية المتزايدة لآسيا، و الثاني بسبب النهايات المنظورة لعصر البترول.
من هذه النقاط و من غيرها، تظهر مصالح أمريكية جديدة، او أشكال جديدة لمصالح قديمة. و هناك اتفاق على أغلب هذه المصالح في الدوائر المهمة في الولايات المتحدة. نقطة الاختلاف الرئيسية تكمن فيما يجب عمله في النظام العالمي القديم، او بشكل ادق في دور الولايات المتحدة فيه.
القائلون بضرورة تغيير الدور الأمريكي، في الحقيقة، يقصدون إحداث ثورة في الاستراتيجية العالمية لأمريكا، ذلك انهم يدفعون الى قرارات مثل انسحاب الولايات المتحدة من حلف شمال الاطلنطي (الناتو – وسيلة الدفاع الأولى عن أوروبا)، مثل تقليص هائل في الوجود في الشرق الأوسط، مثل إنهاء التعهد الأمريكي بالدفاع عن حلفاء في آسيا و أهمهم اليابان، و مثل إنهاء الدور الحاسم الذي تقوم به أساطيل الولايات المتحدة في تأمين البنية التحتية للملاحة و التجارة الدوليتين و تأمين شبكات الاتصالات الدولية (سواء في المحيطات او الفضاء).
قد يبدو هناك تعارض بين بعض هذه النقاط و بين المصالح الجديدة للولايات المتحدة. لكن الرؤية هنا ان الدور الأمريكي يجب ان يخدم المصالح الامريكية مباشرة، و ليس أن يؤمن نظام كامل تستفيد منه دول أخرى.
في مقابل هذه الثورة في تصور الدور الأمريكي، هناك دوائر أخرى (و بعضها قريب من مؤسسات هامة في هيكل الأمن القومي الأمريكي) ترى مخاطر كبرى في تغييرات حاسمة كتلك. تلك الدوائر تتفق على ان النظام العالمي الذي بدأ مع انتهاء الحرب العالمية قد وصل الى نهاية طريقه، لكنها تريد تقليما لدور الولايات المتحدة و ليس تغييرا كاملا له. و الهدف هنا أن يكون التقليم في الدور الأمريكي بداية نظام عالمي جديد تقوده الولايات المتحدة، و يستمر في المحافظة على مصالحها، و يساعدها على استمرارية هيمنتها و إن بأشكال جديدة - و ليس التغيير الشامل الذي تراه هذه الدوائر مؤدي الى شكل دولي قريب مما كان سائدًا في بدايات القرن العشرين حيث العالم مناطق نفوذ لقوى متعددة.
الغالب أن التفكير حول المصالح الامريكية الجديدة، حول أفضل طرق و تكاليف حماية هذه المصالح، حول النظام العالمي الذي يوفر هذه الحماية، و من ثم حول الدور العالمي للولايات المتحدة، سيكون الملف الأهم امام الإدارة الأمريكية القادمة. و الغالب أيضا ان جائحة فيروس الكورونا و العواقب الاقتصادية، و من ثَم السياسية، التي سيُلحقها، ستُسرِع من أهمية إتخاذ قرارات حول هذه المصالح. لكن الحوار و صراع الأفكار بين هذه الدوائر بدأ يخرج الى العلن، و هو جدير بالمتابعة لأن عواقب القرارات التي ستنتج عنه ستكون مهمة.