من أيام نشر واحد من مراكز الفكر النافذة في واشنطن رسالة طويلة مجهولة الكاتب تطرح تصور لكيفية مواجهة الصين في المرحلة القادمة.

من النادر نشر كتابات مجهولة الكاتب في مراكز بحث كبرى. و لعل المثال الأشهر لذلك، كان التقييم الذي كُتِب في أواخر الاربعينات و نُشر في مجلة فورين افايرز الذي قدم تصور عن كيف يمكن للولايات المتحدة التعامل مع الاتحاد السوڤيتي. و كان التقييم يومها مجهول المصدر، نُشِر بامضاء (X). و عُرِف فيما بعد ان كاتبه كان جورج كينان، الذي كان وقتها دبلوماسياً أمريكيا في موسكو، ثم أصبح فيما بعد العقل الرئيس في هيئة الأمن القومي الأمريكية لمواجهة الاتحاد السوڤيتي (الى أن أختلف تماما مع أفكار إدارات متعاقبة و قرر الإعتزال، و إن بقت أفكاره الأولى بوصلة صُنع العمل الاستراتيجي الأمريكي نحو الاتحاد السوڤيتي).

هذه المرة، الكاتب معروف لمركز البحث الذي نشر المقال المطول، و ان اتفق الاثنان على إخفاء هويته. لكن المؤكد انه ذو خبرة باعمال التقييم الاستراتيجي داخل الحكومة الأمريكية، و غالباً في جانبها الاستخباراتي و ليس العسكري.

الرسالة تبدأ بتحديد لماذا يُشكل صعود الصين تهديد للولايات المتحدة. و المهم هنا ان التركيز ليس على الجانب العسكري فقط، و لكن على السرعة الكبيرة لدى الصين في العقدين الماضيين في استيعاب تكنولوجيات و أفكار حديثة. و الاستيعاب بالضرورة يعني القدرة على التطوير.

التركيز الثاني على معنى التهديد. و النقطة الأهم هنا هي ليس فقط وجود الإمكانات، و لكن الاحتمالية شبه المؤكدة ان هذه الإمكانات العسكرية و التكنولوجية و العلمية و الفكرية و الاقتصادية سوف تُوضع لخدمة اهداف متعارضة مع المصالح الأمريكية. بناء على ذلك، هذه الرسالة تريد تصعيد أمريكي لطريقة التفكير في مستقبل المواجهة مع الصين – تصعيد أبعد من فكرة “المنافس الاستراتيجي” التي طُرِحت في استراتيجية الأمن القومي الأخيرة في ٢٠١٧.

التصعيد ليس مجرد إحلال كلمة مكان أخرى، و لكن تحديد أهداف جديدة نحو الصين .. هذا يُعيدنا الى رسالة جورج كينان في أواخر الاربعينات، و التي كانت في جوهرها، تحليل لمواطن الضعف في الاتحاد السوڤيتي، و التي وصلت الى تصور ان الاتحاد السوڤيتي سينهار من الداخل خلال أربعة او خمسة عقود. و ان سياسة “الاحتواء” (كما سماها كينان وقتها) يجب ان تُضعِف من قدرة الدولة السوڤيتية على التعامل مع مواطن الضعف المجتمعي و الاقتصادي و الفكري و السياسي لديها. و بالطبع كان فِكْر كينان و الاستراتيجية الأمريكية المترتبة عليه واحد من أهم النجاحات السياسية الأمريكية في القرن العشرين.

التركيز الثالث في الرسالة عن الرئيس الصيني تشي جانپينج. الكاتب يعرض رأي ان صعود تشي الى رأس الحزب الشيوعي في الصين غير من اتجاه السياسة الصينية. قبله (خاصة زمن چيانج زيمين و هيو جينتاو) الصين كانت تسعى لتثبيت الوضع الاستراتيجي الراهن في شرق آسيا – أي منع الولايات المتحدة من توسيع نفوذها في المنطقة بدون تحدي المصالح الامريكية. الآن (في نظر الكاتب) الصين تسعى لتغيير الوضع الاستراتيجي في شرق آسيا، و هناك تأكيدات على طموحات لفعل نفس الشئ في حزام جغرافي أوسع.

بناء على هذا، الرسالة تسعى الى نقطتين:

الأولى: نوع جديد من استراتيجية كينان نحو الاتحاد السوڤيتي : تحديد لمواطن الضعف في هيكل السياسة و المجتمع و الاقتصاد و الأفكار الحاكمة في الصين، و تحديد اهداف أمريكية نحو مواطن الضعف تلك.

النقطة الثانية: تفعيل فكرة “فرِق تسُد” داخل الهيكل الحاكم في الصين. الرسالة تركز على تشي و المجموعة المحيطة به، و تطرح إحداث شروخات داخل الحزب الشيوعي الصيني – ليس لاسقاطه و لكن لتغيير مساره، و العوده به الى نفس النقطة الفكرية التي كان عليها قبل صعود تشي چانپينج .. هذه نقطة مهمة، لان في ذلك ادراك ان اسقاط الحزب الشيوعي في الصين هدف شديد الصعوبة الآن. لكن تغيير مساره و العوده به الى أن يقرر عدم جدوى تحدي الولايات المتحدة، شيء أخر.

هناك الكثير من الأفكار الذكية في الرسالة. كما أن هناك استيعاب واضح لتجربة أفكار جورج كينان حول الاتحاد السوڤيتي. لكن هناك ثلاث مشاكل في تلك الرسالة.

واحد: ليس هناك تفصيل يُظهر ان هناك اختلاف جوهري داخل الحزب الشيوعي الصيني حول أفكار و سياسات تشي چانپينج و المجموعة التي حوله. هناك صراعات سلطة، نعم .. لكن تلك لا تعني بالضرورة اختلافات حول مستقبل الدولة.

اثنين: المحاور التي تطرحها الرسالة للعمل، بعد تقديم الفكر العام، لا تحمل جديداً، و تدور حول نفس النقاط التي أُثيرت في عهدي الرئيسين أوباما و ترامب، و هي تقوية عناصر الفعل الأمريكية في مواجهة صعود الصين.

و أخيراً: الرسالة لا تربط بين قدرات الفعل الأمريكي و ما تراه مواطن ضعف صيني. و عليه تفتقر الى التكامل المطلوب من أي فِكْر استراتيجي يستحق ذلك الوصف.

بالرغم من ذلك، من الواضح ان هناك الآن تيارات فِكْر في واشنطن اكثر قلقاً من الصين و خاصة من القيادة الحالية لحزبها الشيوعي. و كالعادة في دوائر القرار الأمريكية، مطبخ الأفكار يأخذ وصفات مختلفة و يُجربها و يخلطها. لكن دائماً من وسط ذلك الزخم، و في لحظات القلق، نرى طبخات جديدة. و لا شك أن المطبخ الأمريكي الآن مشغول.