اهم نتيجة للقاء الأخير بين رئيس الولايات المتحدة ، جو بايدن و مستشارة المانيا ، انجلا ميركل ، كان اسقاط أمريكا لمعارضتها لمشروع Nord Stream 2 ، و هو خط الوصل تحت الماء الذي سينقل الغاز الروسي الى المانيا.

الولايات المتحدة كانت معارضة و بشدة لذلك المشروع لأنه ، أولا ، يزيد من اعتماد أوروبا على مصادر طاقة روسية ، و في ذلك تقوية لروسيا في أي حوار او مفاوضات لها مع الغرب . و ثانيا ، لأن عدد من حلفاء الولايات المتحدة من الدول التي كانت اثناء الحرب الباردة جزء من الاتحاد السوفيتي ، مثل أوكرانيا ، ترى في هذا الخط خطرًا عليها . من ناحية الخط الممدود تحت الماء يتخطاها و عليه أوكرانيا لا تستطيع منع تدفق هذا الغاز اذا ارادت – في لحظة تراها هي خطر عليها من روسيا . كما ان الغاز ذاهب الى أوروبا مباشرة ، و من ثم ليس لها حصة فيه . و أخيرًا ، هذا الخط لا تأخد أوكرانيا عليه مليارات من الدولارات كحق مرور .

هنا مهم التذكير ان دول مثل أوكرانيا و غيرها من تلك التي خرجت من عباءة الاتحاد السوفيتي كانت و زالت شديدة القرب من الولايات المتحدة ، خاصة فيما يتعلق بنواحي الدفاع و التموضع الاستراتيجي . و لعل ذلك مفهوم بحكم القلق التاريخي لتلك الدول من القوة الروسية و النزعة في موسكو لرؤية ذلك المحيط الواسع حولها كمجال نفوذ لها . و أيضًا لأن الولايات المتحدة كانت في نظر تلك الدول في شرق أوروبا و على حدود أوروبا مع روسيا ، القبلة السياسية التي تعلقت بها عيونهم . بل ان عقود تحت الحكم الشيوعي جعلت من أمريكا في عيونهم ، قبلة ثقافية .

لكن الموافقة الامريكية على Nord Stream 2 جاءت لتؤكد عدد من النقاط . أولًا ، ان أمريكا ترى المانيا على انها اللاعب الرئيس في الاتحاد الأوروبي ، و عليه فإن مطالب المانيا الاستراتيجية تأخذ الأولوية في النظرة الأمريكية لاوروبا ككل . ثانيًا ، ان الرؤية الامريكية ترى المانيا ليس فقط في دور المتقدم في القارة ، و لكن القائد كذلك ، على الأقل عندما يتعلق الأمر بملفات تراها المانيا مهمة لها . ذلك لأن Nord Stream 2 يجعل من المانيا الموزع الأول للغاز الروسي القادم لاوروبا ، و في هذا توطيد لنفوذ الماني موجود و واضح ، خاصة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي . ثلاثة ، و هذا لُب الموضوع ، الموافقة الامريكية لها مقابل ، او على الأقل امامها مطلب ، و هو تفهم الماني للتطور الجاري في علاقة الولايات المتحدة بالصين . هنا الولايات المتحدة تقول لألمانيا ان أمريكا توافق على مما تريده المانيا في أوروبا ، و لكن على المانيا إعادة تموضعها بخصوص الصين ، الآن و قد دخلت الولايات المتحدة بوضوح في مرحلة صراع استرتيچي معها . إعادة التموضع اقتصادية بالدرجة الأولى و لكن لها ابعاد تكنولوجية ايضًا ، لأن هناك افق تعاون واضح و قد بدأ في مجالات علمية مهمة بين المانيا و الصين .

هناك حاصل استراتيجي كبير من كل ذلك ، و هو ان أمريكا تعيد ترتيب اوراقها ، ليس فقط في الشرق الأوسط و لكن ايضًا في أوروبا ، قبل نقل تركيزها بشكل رئيسي الى ساحل المحيط الهادي حيث المسرح الأكبر لصراعها مع الصين . لكن من رؤية أوروبية ، هذا يُثير تساؤل ، و هو : في حالة نشوب توتر بين روسيا و أي لاعب أوروبي (في الشرق او على الحدود) هل ستكون الولايات المتحدة موجودة في أوروبا ، ام ستكون مشغولة على بعد آلاف الأميال في آسيا . هذا سؤال مهم لأن أوروبا قد تعودت منذ عقود على الوجود الاستراتيجي الأمريكي و رأته كصمام الأمان .

هذا السؤال مؤدي الى أخر ، و هو : ما هو مستقبل روسيا في أوروبا . روسيا خرجت من أوروبا بعد انهيار الاتحاد السوڤيتي . صحيح ان روسيا تحت حكم الرئيس پوتين قد مدت أصابع نحو المنطقة الواقعة بينها و بين أوروبا ، و لكن ذلك المد ما زال شديد البعد عن قوة و نفوذ روسيا في أوروبا اثناء الحرب الباردة . فهل البعد التدريجي لأمريكا سيفتح باب تلج منه روسيا الى منطقة (أقصى شرق أوروبا) طالما اعتبرتها موسكو محيطها الامبراطوري .

كالعادة منظومات الطاقة ذات ابعاد چيو-سياسية هامة . لكن في حالة Nord Stream 2 التساؤلات شديدة الأهمية لأنها داخلة في عمق مجموعة من أهم الملفات الاستراتيجية في العالم اليوم.