الغاء استراليا لصفقة توريد غواصات من فرنسا بقيمة ٧٠ مليار دولار و استبدالها بصفقة مع الولايات المتحدة الامريكية و بريطانيا حدث له أهمية استراتيجية – من ثلاث نواحي .

واحد: الصفقة الجديدة بين استراليا و أمريكا و بريطانيا هي في الواقع اتفاق سياسي (يُشار اليه بالحروف الأولى لاسماء الدول الثلاث : اوكوس) لمواجهة توسع الصين في المحيط الهادئ . و المواجهة هنا سياسية و عسكرية في نفس الوقت ، و قائمة على تواجد داخل حدود و في المياه المحيطة بلاعب مهم في المحيط الهادئ ، و هو استراليا . بمعنى ان التواجد العسكري لم يعد يعتمد على الاساطيل الامريكية وحدها و قواعدها التقليدية على ساحل شرق آسيا - و قد كان ذلك أسلوب الوجود الغربي في المحيط الهادئ منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية – بل الآن يعتمد على تواجد امريكي و بريطاني مع دولة كبيرة في المحيط (استراليا) ، ذات عمق جغرافي و ديمغرافي ، و ذات تقدم اقتصادي و تكنولوجي كبير . الحاصل من ذلك ان المواجهة الغربية التي تقودها الولايات المتحدة امام الارتفاع و التوسع الصيني دخلت مرحلة جديدة . و هي في الغالب مرحلة مواجهة لأن الصين لن تتراجع عن خروجها من حدودها و من كل شرق اسيا الى ما هو ابعد .

اثنين: الاتفاق الأمريكي البريطاني الأسترالي مؤدي الى تغيرات في المعسكر الغربي . في مقدمة المواجهة تقف أمريكا و بريطانيا و معهم حليف ينتمي لنفس الثقافة الانجلوساكسونية ، بينما أوروبا تقف بعيدًا ، لا هي في موقف المحايد و لا هي في دائرة اتخاذ القرار في الغرب . ذلك ان اوروبا بضرورة اتفاقيات الدفاع و بطبيعة النظام السياسي و الاقتصادي فيها و بدوافع الثقافة ، لاشك جزء من المعسكر الغربي امام التوسع الصيني ، و قد كان ذلك أساس الاتفاقية الفرنسية الاسترالية التي ألغيت .. لكن أوروبا ايضًا بعيدة عن قلب التحالف الجديد ، و هذا معناه بعيدة عن صنع القرار .. و هنا سبب الغضب الفرنسي الشديد من إلغاء الصفقة . صحيح ان الالغاء موجع لصناعات عديدة داخل فرنسا ، كما ان الإلغاء يجرح كبرياء الدولة الفرنسية ، و تلك مشكلة كبيرة للرئيس ايمانيول ماكرون خاصة و هو على أبواب انتخابات رئاسية .. الا ان في عمق الغضب الفرنسي ادراك ان الغاء الصفقة تحجيم لدور فرنسا و من وراءها لدور أوروبا في الملف الاستراتيجي الأهم امام الغرب هذه الأيام و أغلب الظن في المستقبل المنظور .

أوروبا هنا في موقف صعب . من ناحية الاتحاد الأوروبي لا يستطيع قبول دور لاعب على اطراف المعسكر الغربي ، و من ناحية أخرى الاتحاد الأوروبي لا يمكنه الخروج من ذلك المعسكر . لأنه بالرغم من أي حديث تقوله أي عاصمة أوروبية عن أهمية بناء قدرات عسكرية استقلالية لاوروبا ، فان الحقيقة هي ان القدرات العسكرية الغربية القادرة حقاً على الفعل في الملفات الاستراتيجية تكمن في الولايات المتحدة و بريطانيا ، اما داخل الاتحاد الأوروبي فوحدها فرنسا ذات إمكانات جادة . كما ان عمليات اتخاذ القرار العادية داخل الاتحاد الأوروبي معقدة و طويلة و قائمة على قبول اغلب الدول الأعضاء - فما بالك في حالة القرارات الاستراتيجية المتعلقة بالدفاع والأمن و المواجهات . أوروبا إذن تحتاج وجودها في المعسكر الغربي ، لكنها تريد صوت مسموع و ذا وزن ، و ليس ان تكون تحصيل حاصل . لذلك فمن المؤكد ان الشهور القادمة ستشهد حوارات هامة داخل المعسكر الغربي و داخل حلف شمال الاطلنطي حول توزيع الأدوار و الأعباء و المسئوليات ، و ذلك سيستدعي نقاشات حول درجات و مستويات الاصطفافات حول و وراء الولايات المتحدة في المرحلة القادمة .

ثلاثة: الاتفاق بين أمريكا و بريطانيا و استراليا ، و المواجهة السياسية الاستراتيجية مع الصين يثبتوا تغيرًا كان قد بدأ منذ عُقد من الزمن ، و هو أن المحيط الهادئ أصبح الآن فعلاً المجال الأول للمواجهة الغربية الصينية ، و عليه مجال الصراع الاستراتيجي الأهم في العالم . ذلك يقلل من أهمية مناطق أخرى كانت لعقود منذ منتصف القرن العشرين بؤر الصراع ، و أهمها أوروبا و الشرق الأوسط . ربما يرى البعض في ذلك فؤائد للشرق الأوسط لأنه غالبًا سيُقلل الضغوط السياسية على المنطقة مما قد يُساعد جهود التنمية . لكن انتقال مراكز الجاذبية السياسية من أوروبا و حوض البحر الابيض المتوسط الى شرق و وسط آسيا و المحيط الهادئ سيُزيد من القلق الأوروبي ، لأن معناه ان اهتمام الولايات المتحدة بالمنطقة سوف يقل أكثر و أكثر ، و هذا مؤدي الى مسئوليات أمنية في المنطقة على الاتحاد الأوروبي أكبر و أكبر .

اوكوس تبدو من بعيد صفقة عسكرية عملاقة اثارت مشاكل ، لكنها في الواقع حلقة في التغير الاستراتيجي الأهم في العالم هذه الأيام ، حيث صعود الصين لتصبح دولة عظمى يفتح أبواب لصراعات و تغيرات في أهم الهياكل الأمنية في الغرب و الشرق الأسيوي التي لم يعرفها العالم منذ انتهاء الحرب الباردة .