الثبات في الأرض ليس ثابتًا في كل الأراضي .. تجارب الشعوب فيها ما يثبت البقاء في مكان الولادة و الطفولة ، و فيها ما يدفع الى الذهاب . لكن المر في الرحيل هو ما تفرضه الأيام ، و ما تجعله احيانًا خروج ما بعده عودة .

في مصر ، الرحيل مفهوم كان قديمًا مرفوضًا و اصبح مع الزمن حزينًا ثم عاديًا .. الرفض المصري للرحيل جاء نتيجة الارتباط بالأرض ، و الأرض في مصر هي الأم ، البيت و الملجأ و العاطية الواهبة .. و لذلك فتركها عقوق . لكن مع تراكم الأحزان على مر عقود كثيرة بدأ الولدان في الخروج عن الطوع . و كانت النتيجة ان وهن الطوق الذي طالما ربط الفلاح بالطمي .

في بلادٍ أخرى كان الرحيل اسهل ، لأن للرحيل ، منذ البداية ، معانٍ أخرى في ثقافات تلك الأراضي . في الشام ، خاصة على ساحل البحر الابيض المتوسط ، الأرض منذ الأزل ، و بحكم طبيعة الجغرافيا ، نقطة انطلاق ، هي مكان خروج و عودة . لكن أحيانا كثيرة فرض التاريخ معان أخرى ثبتت الخروج كضرورة و جعلت من العودة انتحارًا – أحيانا مجازًا و أخرى واقعًا .

تاريخ الشام في السنوات العشر الأخيرة فيه من ذلك الفرض .. و لعل الفن أعمق ما عبر عن القهر النابع من ذاك الفرض .. سواء في مذكرات فتاة سورية في أوائل العشرينات تكتب بعامية دمشقية من غرفة صغيرة في ضواحي برلين ، حيث كبرت في العقد الماضي ، او في فيلم تسجيلي لمخرجة لبنانية عاشت كل تجربة الحرب في السبعينات و الثمانينات ، ثم عاشت السنوات الأخيرة هناك ، في بيروت ، حيث سقطت السياسة في وحل من الضياع و الأوهام و الاجرام ، ثم شهدت انفجار مرفأ بيروت الذي دمر ، في لحظات ، ثلث المدينة ، خاصة جزءًا كان لعقود ملجأ للموهبين ، و حيث رقص الابداع مع الجمال لسنوات و سنوات .

في مذكرات الفتاة الناظرة الى المستقبل او في فيلم السيدة المحدقة في الماضي يفرض الواقع قهرًا على الروح .. و النتيجة في الحالتين ، عند الفتاة المنتظرة ما تحتمله السنين القادمة من نجاح و عند السيدة المنتظرة وعد السنين الفائتة من راحة ، تبتعد الروح عن المكان الذي ولَد القهر .. تهرب الروح بعيدًا سواء بالجسد او بالوعي او بالاثنين .. فالعودة عند الفتاة مجال لتخيل مكان لا تعرفه ، و عند السيدة مجال لتذكر مكان لن تراه . و عند الاثنين العودة ابدا ليست اختيار حقيقي .

الرضا بالذهاب بلا عودة من ملامح القهر الذي فُرِض على الروح .. و الرضا بالقهر اول الكفر .. الكفر بفكرة التغيير او احتماليته .. لذلك فإن أخر ما قالته السيدة هناك ، و تراكمات الكسر و التراب امام عينيها تملأ المكان: “كل مانقوم ننبطح” .. و جاء الرد من رجل يبدو في نهايات الثلاثينات – حيث يبدأ حماس الشباب في التواري – “كما لو ان المدينة لا تريد ان تبادلني الحب” .. ضربة وراء ضربة .. وقائع حياة تعمق الرغبة في الابتعاد ، الرغبة في ما هو غير متاح ، ما هو اساسيات و حقوق في اغلب البلاد .. و وسط تراكمات القهر ، و مع القبول بأن ربما حقًا المدينة – المكان – في تجسُد الحياة فيها ، لا تريد مبادلة الحب ، لا تعبأ بانسانها ، هنا يتحول الكفر بفكرة التغيير و احتماليته الى كفر بالمكان - و تلك من أكبر الخسائر للإنسان و للمكان .

لذلك فانه بالرغم من الخسائر الفادحة التي تكبدها الشام في السنوات العشر الماضية يبقى رحيل الملايين ممن رحلوا ، ممن ذهبوا و قد قبلوا بعدم العودة ، من الأثمان الداعية للتوقف امامها .