مقال الأسبوع الماضي كان عن مخاطر التملل الفرنسي على اختيارات السياسية الداخلية. لكن القلق من ما يمكن ان يفضي اليه التملل الفرنسي واصل الى خيارات السياسة الخارجية. و لعله مهم النظر سريعًا في كيف نظرت فرنسا لتاريخها عندنا، في العالم العربي. ذلك لأن هناك الآن – في الشهور السابقة على انتخابات الرئاسة الفرنسية - مراكز أبحاث، بعضها قريب من مؤسسات الدولة هناك، تقوم بإعادة النظر في تاريخ علاقتها الدولية.

فرنسا تعاملت مع العالم العربي في النصف قرن الماضي من خلال ثلاث رؤى.

الأولى امبراطورية .. رؤية ترى ان فرنسا وريث للامبراطورية الرومانية، طور فكرة الدولة الأوروبية و اضفى عليها رونق حضاري و ثقافي راقي، أدى الى تطور فكرة الإمبراطورية من القوة المسيطرة (أيام الرومان) الى قوة تركز على بناء هوية – في هذه الحالة، هوية مرتبطة بتاريخ فرنسا و لغتها و ثقافتها .. و قد كان ذلك الفكر الذي خرج منه مشروع نابليون ثم الوجود الاستعماري لفرنسا. هذه الرؤية رأت توسع طبيعي لفرنسا جنوب البحر الأبيض المتوسط، سواءً شرقًا الى الشام او غربًا الى منطقة المغرب .. هذا المشروع انزوى بالطبع مع نهاية عصر الامبراطوريات الأوروبية. لكنه لم ينتهي من الفكر الفرنسي. بقى منه تصور إمكانية استمرار سيطرة فرنسية، ليست سياسية مباشرة، و لكن من وراء استار، و أحيانا من خلال مصالح إقتصادية. و كان بعض مما بقى من هذه الرؤية، سواء من حنين، او أحلام، مؤثر في بعض توجهات فرنسا في شرق البحر المتوسط.

الرؤية الثانية ديجولية، نسبة الى الرئيس الفرنسي شارل ديجول .. و هي رؤية ترى فرنسا صاحبة رسالة سياسية نابعة من ثلاثة عوامل. واحد: تمثيلها لاهم قيم الليبرالية (او هكذا يراها أصحاب هذا التصور). اثنين: كونها، خلال الفترة من الخمسينات الى بدايات القرن الواحد و العشرين، القوة السياسية الأولى داخل أوروبا، و أحيانا كثيرة القاطرة السياسية التي تقود القطار الأوروبي. و ثلاثة: انها تمثل توازنًا - غربيًا، و ليس شرقيا، و منتمي الى الرأسمالية، و ليس الى مدرسة فكرية أخرى - للافكار الأمريكية .. في هذه الرؤية، فرنسا تعاملت مع العالم العربي كرائد يقدم فكر و مثال سياسي، و يريد من خلالهما نفوذ يدعم التموضع الفرنسي داخل المعسكر الغربي. و قد كان المثال الأهم لوضع تلك الرؤية محل تنفيذ هو تعامل فرنسا مع تجربة القومية العربية بعد ان انتهى صراعها مع تلك التجربة حول مستقبل الجزائر، أي في اوج عصر ديجول .. ثم بعد ذلك، أحيانا في سنوات حكم جاك شيراك.

الرؤية الثالثة محدودة الطموح الاستراتيجي، او ربما نابعة من مصالح أنية، ملموسة. في تلك الرؤية فرنسا بعيدة عن التأثر بدور امبراطوري قديم، و بعيدة عن أي طموحات قيادية داخل أوروبا، كما هي بعيدة عن محاولة تميز في الفكر و الإداء عن الولايات المتحدة الامريكية .. هنا السعي وراء المصالح الاقتصادية يأخذ كل الاهتمام، و يستدعي بالضرورة، اتفاقات مع الدول حيث المصالح الاقتصادية الأكبر، خاصة في الخليج.

لكن المهم - و هذا جوهر بعض النقاشات النابعة من الدراسات الجارية الآن في بعض مراكز الأبحاث الباريسية – ان فرنسا في أحياناً كثيرة تصرفت في العالم العربي بدون مرجعية فكرية، و أحيان بدون تحديد هدف واضح يمكن قياس درجة الوصول اليه او النجاح فيه. بعض المفكرين الفرنسيين يوجهون اللوم هنا الى تغيرات في هياكل مؤسسات مهمة في صنع القرار الفرنسي. و قد كان هناك سياسيون كبار وراء هذه التغيرات. لكن بغض النظر عن اراء بعض المفكرين في بعض الرؤساء الفرنسيين في العشرين عامًا الماضية، المهم ان احد النتائج النابعة من تلك الدراسات ان السياسة الخارجية الفرنسية في فترات متعددة من العقود القليلة الماضية، في عدد من المناطق في العالم، و منها العالم العربي، كانت تائهة.

هذه النقطة متعلقة بصعود اقصى اليمين الفرنسي. ذلك أن أصوات عديدة في اقصى اليمين تتهم الطبقة السياسية الفرنسية – و تلك بالطبع تضم اهم أصحاب النفوذ في اهم مؤسسات الفعل الفرنسي – بأنها صاغت سياسة فرنسا الخارجية على تصورات تاريخية عفى عليها الزمن، و على أوهام لا علاقة لها بالمشاكل التي يعانيها المواطن الفرنسي، و ان بعض السياسات الخارجية تسببت في ما يراه اقصى اليمين على انه مشاكل كبرى، و أهمها ازدياد كبير في معدلات الهجرة – خاصة من دول ذات غالبية إسلامية - الى فرنسا.

و الحاصل من ذلك، انه مع القلق الشديد من احتمالات فوز اقصى اليمين في الانتخابات، هناك ضغط على مراكز الابحاث الجادة ان تعيد النظر في مبادئ و تصورات السياسة الفرنسية. الهدف بالطبع ليس احداث تغيرات كبرى سريعة. نحن نتكلم عن فرنسا: و هي دولة مؤسسات عريقة، ذات ثوابت. لكن الهدف هو النظر في التاريخ الحديث – او التاريخ المباشر كما يسمى أحيانا - بشكل لا يستثني فرضيات من التدقيق و من المراجعة. أي ان الهدف هو استبعاد أحتمالات ان تتوه السياسي الفرنسية مرة أخرى، خاصة في العالم العربي.

لا شك اننا لن نرى تغيرات في التصورات او في المواقف الفرنسية قبل الانتخابات. لأن كل ما يجري من دراسات ما زال تحضيري، مما يدور في دوائر مراكز الأبحاث و ليس اجتماعات أجهزة القرار. لكن اذا حدث و رأينا زلزال يهز السياسة الفرنسية و رأينا قيادة شديدة اليمينية في قصر الاليزيه، ساعتها ستخرج الكثير من التقييمات الجارية الآن الى النور. و ساعتها سنرى تغييرات مهمة و بعضها كبيرة في تعاملات فرنسا مع العالم العربي.