سيدتنا الباريسية
جميلة هي. تراها و انت قادم اليها ذات بهاء و جلال. و الجلال، أكثر من البهاء، هو ما يعطيها جاذبيتها الخاصة. ذلك أن جمالها هادئ، لا يدعوك اليه بصخب. لكن جلالها صارخ، لا تخطئه عين عرفت تأثير الرفعة التي تميز السامي من الأشياء.
سيدتنا الباريسية عتيقة، احتلت موقعها في قلب عاصمة النور منذ قرون عديدة. تعرضت لهجمات و حرائق، على و انزوى نفوذ قساوستها على مر الزمان. كانت (و كان كهانها) لقرون العقل المفكر للكنيسة الكاثوليكية في فرنسا، ثم لأزمنة طويلة كانت الوجه المرفوض لتدخل تلك الكنيسة في الشأن العام. لكن، في أزمنة القوة و النفوذ، كما في أزمنة التراجع و الانزواء، بقيت نوتردام تجسيد لقلب باريس.
القلب هنا مركز الإحساس و مرتكز اللا مرئي من الكينونة. الإحساس هو ذاك من الباريسيين لمدينتهم و من الزوار لتلك العاصمة التي شاءت الأقدار ان تكون بيتًا لإنجازات بديعة، تدفقت على مر قرون فوق تلك الأرض على ضفتي نهر السين و الأطراف المتعلقة بهما. اللا مرئي في مدينة، أي مدينة، هو القابع في الوعي الجمعي لسكانها و هو دائما، في أي مكان، موصول بمبانيها و طرقاتها، و الأهم، بمجريات التاريخ على أرضها.
المدن الكبرى، كباريس، لا ينحصر الوعي بقيمتها في مكان، أياً كان. لكن قد يتمركز الشعور بها في رمز يراه أهلها محتوي لأهم المعاني التي تجسدها المدينة. نوتردام احتوت الكثير و الكثير من تلك المعاني التي وُلِدت و ترعرعت على مر قرون، ليس فقط في باريس، و لكن من خلال التجربة التاريخية لفرنسا.
لذلك، كان ذلك المشهد منذ عام تقريبًا، في ربيع ٢٠١٩، و النيران على وشك أن تأكلها، مخيفًا. الخوف هنا لم يكن على جدران و أعمدة و أبراج، مع المعرفة بقيمة و جمال تلك الإبداعات المعمارية. الخوف كان على مختزن الوعي الفرنسي الذي تجسده نوتردام. و الرعب كان في رؤية النار ضارمة في ما هو مرئي (المبنى) و لكن واصلة الى ما هو غير مرئي (خزان التاريخ، و هو في قول ألماني قديم: عمق ذاكرة الأمم).
النار لم تكن لتمحو المعاني. لكن توهج النار أمام عيون و أريجها في اذان الآلاف الذين وقفوا امام نوتردام و هي على وشك الإحتراق، بعث في لحظات الخوف من فقدان ما يشعر الوعي الجمعي الفرنسي انه من أثمن ما يملك، ذلك التجسد للمعاني التي خلقها و أثمرها تاريخه على مر عشرة قرون تقريباً.
جزء من الجلال يأتي من إحترام الناس للمكان. و الإحترام يأتي من إدراك القيمة، بالذات قيمة ما هو غير مرئي. و ذلك كان و لا زال جزء من روعة نوتردام. المكان حول سيدتنا الباريسية، ليس فقط نظيفًا و منظمًا و هادئًا. هناك قناعة عامة، شبه قاعدة، ان جزء من الهوية الباريسية يُعَبر عنه باحترام ما هو ظاهر من الوعي الجمعي للمدينة، و نوتردام أهم تلك الظواهر. ذلك الإدراك مقياس لا يخطئ على فهم أي مجتمع لقيمة تجربته، و من ثم تقديره لوعيه. و من لا يقدر قيمة وعيه، ما زال بعيدًا عن فهم وجوده.
لذلك، في هذه الأمسية من ربيع ٢٠١٩، كان الخوف في العيون و العقول التي وقفت تراقب اللهب و هو يتراقص حول السيدة الباريسية العتيقة الشامخة. و لذلك سالت دموع رقيقة، تحمل نفحات جمال – و الأهم إدراك بقيمة التاريخ و قدسية الوعي الجمعي – عندما خمدت النار و من بين غيوم الدخان ظهرت نوتردام واقفة في لحظة جلال جديدة، كانت في حد ذاتها، تلك اللحظة، إضافة قيمة للوعي الجمعي لفرنسا.