الرئيس و المستشار و القرار
مستشار الأمن القومي الأمريكي، وظيفة بلا توصيف محدد…واحدة من تلك الوظائف التي تتشكل بشخصية و طريقة أداء و درجة ثقة الرئيس الأمريكي في من يقوم بالوظيفة.
المستشار يمكن ان يكون اهم مُفسِر لصورة الأمن القومي الأمريكي في اللحظة التي يخدم فيها في البيت الأبيض، و واضع استراتيجية العمل لهيئات الأمن القومي الأمريكية المختلفة. مُفسِر هنا تعني مترجم الأهداف العليا، التي لا تتغير في الاستراتيچية الكبرى للدولة الأمريكية، الى نقاط محددة تريد إدارة أمريكية ما، في لحظة معينة، تحقيقها. في هذه الحالة، فان مستشار الأمن القومي هو مركز عملية الفكر و ربما إدارة التنفيذ، للسياسة الخارجية للولايات المتحدة، على الأقل في الملفات شديدة الأهمية. هكذا كان الحال عندما تولى هنري كيسنجر تلك الوظيفة في السبعينات.
المستشار يمكن ان يكون مُنسِق لأراء مختلفة داخل البيت الأبيض، في وزارة الخارجية، في الپنتاجون (وزارة الدفاع)، و في وزارة الخزانة، و بُناءً على هذه الأراء، واضع سيناريوهات مختلفة أمام صانع القرار (الرئيس). هكذا كان الحال مع زبجنيو بريچنسكي في أوائل الثمانينات.
احيانا، يكون المستشار بمثابة مُفكِر مع الرئيس، مهمته (او مهمتها) الغوص في فِكْر الرئيس و مساعدته في تحويل المبادئ التي قدمها في برنامجه الانتخابي او في وعوده لحزبه و الناخبين، الى سياسات قابلة للتنفيذ في مجالات العمل الدولية للولايات المتحدة. غالبا يكون هذا الدور في حالات وجود رئيس ذو خبرة محدودة في العمل الدولي و عالم السياسة الخارجية. و قد كانت كوندوليزا رايس اوضح مثال لذلك الدور مع چورچ بوش الإبن في بدايات الألفية الجديدة.
أحياناً يتراجع دور مستشار الأمن القومي لشكل اقرب ما يكون لمُنظم اداري. و قد حدث هذا في فترتي رئاسة باراك اوباما، ليس فقط بسبب وجود وزراء خارجية بوزن و تجارب و علاقات هيلاري كلينتون و چون كيري، و لكن الأهم، لأن الرئيس في هذه الحالات (مثلما كان الحال مع اوباما) له رؤى شخصية واضحة في عدد من الملفات الهامة للسياسة الدولية للولايات المتحدة. و هنا تأخذ هذه الوظيفة شكل تنفيذي في جوانب كثيرة.
الحال الآن بين الرئيس دونالد ترامپ و مستشاره للأمن القومي چون بولتون، غريب. من ناحية، يبدو واضحاً ان هناك تباعد كبير بين الرجلين في الأفكار و التصورات. و قد وصل الأمر الى درجة تصريحات متضاربة، دعت الرئيس الى تصحيح مستشاره علناً و في ملفات رئيسية، مثل التعامل مع إيران. من ناحية أخرى، يبدو چون بولتون واثقاً من قدرته على فرض رؤاه في العديد من تلك الملفات. و قد ظهر هذا في زيارات مختلفة، مثلاً، في طوكيو و اليابان في مايو ٢٠١٩.
هناك تصور، في ذهن عدد من المراقبين الأوروبيين، ان التناقض بين الرئيس و مستشاره للأمن القومي، تقسيم ادوار، يترك للرئيس ترامپ حرية حركة، أحيانا دافعاً الصورة الأمريكية للعمل الخارجي عدواً الى الأمام، و أحياناً ماسكاً بزمام هذا العمل من اندفاع يريده بعض مستشاريه، او تدفع اليه مراكز قوى مختلفة (بالذات في دوائر الحزب الجمهوري). و ذلك التصور قد يكون مصيباً في بعض الأحيان. لكن يصعُب ان يكون معبراً عن الوضع في كل الأحوال. و الغالب، انه، بغض النظر عن شخصية ترامپ المتغيرة الأحوال، فإن التناقض موجود.
و ذلك يدفع الى سؤال: عن درجة التأثير التي تمارسها مؤسسات الأمن القومي الأمريكي – و هي متعددة: من البنتاجون، الى الخارجية، الى أجهزة المخابرات المختلفة للدولة الأمريكية، الى وزارة الخزينة، الى عدد من مراكز الفكر التابعة، و إن بشكل غير مباشر، للحزبين الكبيرين هناك، الجمهوري و الديمقراطي - على القرار الاستراتيجي للدولة الآن، في ظل تناقضات بين الرئيس و المستشار الذي يُنسق وصول آراء هذه المؤسسات الى الرئيس.
الحاصل هنا، ان هناك عدد من تلك المؤسسات ما زالت، بعد ثلاث سنوات تقريباً من بداية عهد الرئيس ترامپ، تعمل بلا قيادة حاصلة على تفويض برلماني (من الكونجرس)، و ذلك شرط دستوري أمريكي في عدد من المناصب الهامة. هناك أيضاً تقارير، صادرة عن مصادر محترمة، تُظهر تراجعات كبيرة في اداء بعض المؤسسات الحكومية الأمريكية الداخلة في صنع قرارت العمل الخارجي للدولة. كما ان إغلاق عدد من هيئات الحكومة الأمريكية لأسابيع في بداية ٢٠١٩، نتيجة لعدم إقرار الكونجرس مواد ميزانية، أظهر أن الاختلافات الايديولوچية بين الحزبين الجمهوري و الديمقراطي واصلة الى إحداث عجز في العمل الحكومي للدولة الأمريكية…في خِضم ذلك الوضع، فإن التناقضات بين الرئيس و مستشاره للأمن القومي (مع ما يمثله ذلك المنصب) غالبا يأخذ آليات صنع القرار الاستراتيجي الأمريكي الى تعقيدات لم تعرفها امريكا منذ عقود (منذ أيام عزل الرئيس نيكسون في منتصف السبعينات).