انه ساحل قيصر ، ذلك الخليج الصغير المواجه لتلك الجزيرة المهجورة .. محمود القادم من الإسكندرية ، الذي يعمل في مطعم سمك هادئ على الشاطئ ، قال لي ان الاسم يعود لرجل روماني – “ او حاجه كده” على قوله – جاء و تزوج كليوبترا .. إذن ، هنا توقف اسطول يوليوس قيصر القادم من إيطاليا هادفًا الإسكندرية و عرش كليوباترا و من ورائهما مصر . لكن هانيا ، صاحبة تلك العشش على الساحل ، ابتسمت في سخرية قبل ان تسألني: مين اللي قالك الكلام ده؟ .. انها مجرد تسمية ، لا أتذكر من اطلقها ، لكنها مع الزمن “لزقت” ، و أصبحت المنطقة “سيزار” (قيصر) .

بعيدًا عن الاسم ، الشاطئ فيه رونق الملَكية .. رمال فاتحة الصفار تكاد تقترب من البياض ، مياه متدرجة الألوان ، من السماوي ناحية الشاطئ الى الأزرق الفاتح و كأنه حلقة وصل بين ما تقف عليه الأرجل و ما تذهب اليه الأعين ، الى الأزرق الداكن الدال على العمق و الثقل و الباعث في النفس بالثبات . انت في رحاب جلال الطبيعة .. انت في رحاب البحر ، أصل الحياة ، رابط القارات .. و ليس أي بحر .. انه الأبيض المتوسط ، انه السيد الكبير الذي نمت على شواطئه حضارات الجمال و الفتوة ، حضارات الفلسفة و الهوى .. لكن ذلك الأزرق الداكن باعث مع ذلك بشعور بالحذر .. تذكر اين انت و من انت .. جلال الطبيعة ليس فقط للنظر باستمتاع ، ليس فقط خلفية لوقت استرخاء .. جلال الطبيعة طاقة خلق ، و في تلك الطاقة تجلي من تجليات الخالق .. كما أن ذاك السيد الممثل هنا لذلك الجلال طالما ما ثار و غضب ، و كما صوره اليونانيون – و هم من افضل من غاصوا في كينونة البحر الابيض المتوسط – هو عاطي للخير و واهب للثراء ، كما هو باطش مدمر ان زاغ العقل عن الاحترام و ذهب عن الوجدان الأدب الواجب في حضرته.

يعود البصر الى الخليج ، و الخليج مرسي طبيعي .. ترى ذلك بوضوح في تكسر الأمواج بعيدًا عن الشاطئ و لذلك هناك تلك الخطوط البيضاء المتعرجة على صفحة الماء .. انها اذن ليست فقط تلك الجزيرة القريبة ، بل ايضًا معها و حولها صخور كثيرة و نتوءات في الأرض تُضعِف اندفاع الماء و تجعله يصل الشاطئ في أغلب الأحيان مستكينًا كما لو انه يقبل اليد طاعة .

لكن جمال الاحترام للابيض المتوسط ليس في وصول الموج ، و لكن في نظر القادمون اليه ، السائرون على شاطئه ، و أغلبهم هنا من أقاصي أوروبا او شمال غرب آسيا حيث ثقافات بقى لها قرون عديدة تدور في الفلك الروسي فأخذت منه ما أخذت .. عند هؤلاء وجدان جمعي ينشأ مع القليل من ثراء الشمس و مع أقل من عطاء البحور ، فما بالك بعطاء ذلك السيد العظيم الأبيض المتوسط .. لكن عندهم مع نظرة صارمة من الطبيعة ، جلال منها من نوع أخر .. لذلك فهم حاجون للشمس ، للماء ، مدركون لمعنى رونق المكان ، و الرونق من التناغم الكوني ، و في قلبه احترام الانسان المحترم الواعي للجمال الذي حوله ، الجمال الذي ، إن وعاه و احترمه ، ادركه .

هناك الكثير من الابتسامات هنا .. أهل البلد ، المصريون ، على هذا الشاطئ البعيد الهادئ جاءوا لمصيف بسيط بلا صخب ، و لذلك ففي الاحاديث سهولة .. انه جو يُذكر بأجواء العجمي في الثمانينات و التسعينات (و تلك لمن خبرها أجواء حملت تناغم المجتمع المصري قبل ان تصل لأكتافه شوائب كانت لعقود كثيرة متعلقة فقط في الأقدام) .. اما القادمون من أراضٍ بعيدة بثقافتهم المتشبعة بصرامة ما حولهم، و بتجربة حياتية ليست سهلة ، فإن ابتساماتهم ، و إن كانت في أولها شاحبة ، فانها واسعة ، و مع المعرفة و الارتياح، تُظهِر ما تحمله تلك الأرواح القادمة من أراض صقيع من شوق الى الدفئ.

سواء عبرت تلك المياه سفن غازي روماني ام لا ، هذا ساحل جدير بالاسم الملكي . فسلام على ذاك الشاطئ الجميل و على السيد العظيم البحر الأبيض المتوسط ، و على السيدة صاحبة المكان ، مصر.