الكنيسة الأرثوذكسية و الاستراتيجية النووية
هناك كتاب جديد مثير للاهتمام نشرته دار نشر جامعة ستانفورد الأمريكية بعنوان: الأرثوذكسية النووية الروسية، و هو عن الدور الذي تقوم به الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في الفكر و الفعل العسكري في روسيا في العشرين عاما الماضية.
الاهتمام بالكتاب جاء من موضوعه الذي يبدو غريباً. ليس من العادي أن يكون لمؤسسات دينية أدوار في الاستراتيجيات العسكرية للدول في العصر الحديث، ما بالك بادوار في الاستراتيجيات النووية و تفعيلها. لكن ما يحاول الكتاب توثيقه هو سنوات من العمل المشترك بين الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا و وزارة الدفاع هناك، بالذات في القواعد ذات الأسلحة النووية. حسب الكتاب، فإن التعاون بدأ، بشكل رئيسي، بدور للكنيسة في التأهيل النفسي و الإعداد للعمل في جو ملئ بالضغوطات على الأعصاب. و لعل ذلك منطقياً في بلد، بالرغم من العقود التي أمضاها تحت الفكر الشيوعي، ما زال فيه ميل ديني واضح، بالذات خارج المدن الكبرى.
لكن المثير للاهتمام ان هذا الدور الكنسي قد نما و وصل الى أن العديد من القواعد العسكرية الروسية أصبح فيها قسيساً مقيما، و حسب الكتاب، في حالات كثيرة، موجودا في التدريبات و السيناريوهات الإفتراضية المختلفة. ما يلفت الكتاب النظر اليه هنا ان الدور الكنسي اصبح، مع الوقت، عنصر دائم في عدد كبير من القواعد العسكرية الروسية.
مع الوقت، يوضح الكتاب، خرج الوجود الكنسي عن إطار الإعداد النفسي، و بدأ يظهر في كتابات عسكرية نُشِرت في دوريات عسكرية روسية راقية. معنى ذلك أن الكثير من المراجع الإيدولوچية و الأمثلة التاريخية و الأطار الظاهر في تلك الكتابات العسكرية مأخوذ، أو مُتأثر بسرديات من تراث الكنيسة الأرثوذكسية الروسية. و قد وصل هذا التأثر الى كتابات تتناول الاستراتيجيات النووية، و هي بالضرورة، في قلب الفكر الحاكم للأمن القومي للدولة هناك.
بعض القراء قد لا يجد غرابة في هذا التقارب، على أساس أن العديد من أهم منظري الحرب في أوروبا في القرون الوسطى و بداية عصر النهضة تلقوا تعليمهم و تشكلت شخصياتهم داخل المؤسسات الكنسية، و بالطبع كانت الحرب، في تلك العصور، بشكل شبه دائم قائمة على مرجعيات و تبريرات دينية. لكن ما يبدو غريباً هو عودة هذا التأثر، و بشكل ملحوظ، الآن، و ان يصل التأثر، حسب الكتاب، الى الأفكار التي تتناول الاستراتيجية النووية. خاصة ان مثل ذلك الدور لمؤسسة دينية – أياً كانت – يضرب بعرض الحائط كل كلام عن تطور مجتمعي نحو ليبرالية علمانية (و هي، في صورها المتعددة، الغاية و نهاية المطاف في أهم مدارس السياسة الغربية الحديثة).
ما يقوله الكتاب يتلاقى مع ملاحظات عدد من مراقبي روسيا في العقد الماضي. هذه الملاحظات دارت حول تقارب واضح، بدأ منذ عدد من السنوات، بين قوى نافذة في الكريملن (مقر الحكم الروسي في موسكو) و بين الأباء الأهم في الكنيسة الأرثوذكسية. هذا التقارب نابع من إحساس لدى المؤسستين ان الدولة الروسية كانت في تراجع و المجتمع الروسي في سيولة طيلة عصر الرئيس يلتسين (في التسعينات، بعد انهيار الاتحاد السوڤيتي)، و أن المهمة الرئيسية للمؤسستين في العقديين الماضيين كانت إعادة الدولة الروسية للعب الدور الرئيسي في السياسية و المجتمع و الاقتصاد. بكلمات أخرى، هنا، هاتين الموسستين – الكريملن و الكنيسة الأرثوذكسية، و قد مثلا لقرون التعبيرين الأهم عن السلطة - يران تلاقياً بينهما لإعادة مركزية الدولة. و لعل هذا هو لب الموضوع: أن هذا التقارب بين المؤسستين هو تعبير عن صورة معينة للروح الروسية، يكمن في قلبها الفكرة القيصرية للدولة الروسية التي رأت في موسكو قوة عسكرية ضاربة (وهي من أوقف فرنسا ناپليون، و بعد ذلك بقرن و نصف هي من انهك ألمانيا النازية) وأيضاً يرى فيها روما الثالثة (بعد سقوط الكنائس في روما و القسطنطينية). أي أن التلاقي بين المؤسستين قد يكون قديماً، عميقاً في دواخل الوجدان الروسي.