الجنازة في سبتمبر ١٩٧٠ قيل انها الأكبر في القرن العشرين. لكن جنازة الإمام الخميني، في يونيو ١٩٨٩، كانت غالبا أكبر … في كل الأحوال، كانت لحظة وفاة جمال عبد الناصر مفتاحاً لتدفق موجات كبرى من المشاعر داخل مصر و خارجها.

في الداخل، كانت هناك دموع، سجلتها كاميرات غطت الجنازة لتليفزيونات دولية. و أكثر تلك الدموع تعبيرا كانت ما تعلق بالعيون، أعطاها تلألأ و هي شاخصة تنظر للافق. كاميرا صحفي انجليزي التقطت مشهد لرجل يبدو في الاربعينات من عمره. ملامحه و ملابسه تدل على انتمائه لدلتا النيل. يبدو بعيدا عن موكب الجنازة، لكن عيونه تتابعها، و فيها ذلك التلألؤ، فيها وجوم بقدر ما فيها حزن. اللقطة وجدت طريقها الى أرشيف البي بي سي. و قد بدت لي، خاصة النظرة في عيون هذا الفلاح المصري، قد اختزنت جوهر العلاقة بين الرجل الذي ذهب و بين “ناسه”.

لماذا “ناسه”؟ فاجأني السؤال من أحد معدي البي بي سي. الأفضل، في رأي المعد الإنجليزي، “الناس” .. رفضت، لأن تلك العلاقة لم تكن مع عموم المصريين، كما انها لم تكن مع مصريين فقط. هذه العلاقة ربطت الرجل بمجموعات لم تحبه فقط، و لكنها أمنت به و تصورته تجسيدا لامانيها. و كان خلف تلك الاماني تصور لمشروع سياسي، و رؤية للتاريخ. ذلك التجسيد للاماني و خلفة ذلك التصور و الرؤية كانا في عقل مجموعات كبيرة من المصريين، و من العرب.

لكن ليس كل المصريين و لا لكل العرب. في المقابل كان هناك كثيرون رأوا في حكمه و في ما أدى اليه، كارثة عليهم و على مصر و على العالم العربي بأسره. في هذه الرؤية المضادة ناصر و عصره و سياساته و ما مثله مفتاح فهم التراجع الذي حدث في مصر على مدى العقود السبعة الماضية.

قوة و اندفاع المشاعر في رؤية جمال عبد الناصر اثارت فريق الاعداد في البي بي سي. المشروع كان سلسلة من أربعة حلقات طويلة (كل منها ساعة) تحكي لمستمع عالمي عن “صنع العالم العربي الحديث”. و الصنع هنا بمعنى الأسباب التي أدت الى ما وصل اليه العالم العربي في العقد الثاني من القرن الواحد و العشرين. هذه الأسباب وراءها مسببات .. مشروعات سياسية امتلكت من الأدوات و كان عندها من الطاقة و الزمن ان تفعل فعلا مؤثرا في المجتمعات العربية. و قد خرج من تشابكات و صراعات تلك المشروعات السياسية ما دخل في أعماق الوجدان العربي، ما صاغ فكره، و ما ترك اثره في حياة الناس.

و انا اكتب السلسلة للبي بي سي، أخترت أربعة مشروعات. الأول كان التجربة الليبرالية، خاصة في مصر في الفترة من نهايات الحرب العالمية الأولى الى نهايات الحرب العالمية الثانية، لكن مع ادراك ان تلك التجربة كانت مرتبطة بحركات اثرت فيها و تأثرت بها في المشرق و في المغرب.

المشروع الثاني كان القومية العربية منذ بداياتها الجاده في نهايات القرن التاسع عشر في الشام، مروراً بأفكار الهاشميين الذين خرجوا من الجزيرة العربية داعون (و محاربون – بدعم انجليزي) من أجل إقامة مملكة عربية في كل المشرق. وصولاً الى التجلي الأهم للمشروع في فترة جمال عبد الناصر. و انتهاء بمن جاءوا في سبعينات و ثمانينات القرن العشرين و قالوا انهم يحكمون باسم هذه الفكرة.

المشروع الثالث كان الإسلام السياسي في العالم العربي، باوجهه و تدفقاته المختلفة، و الأهم بالتطورات الكبرى التي مر بها منذ ثلاثينات القرن العشرين الى العقد الثاني من القرن الواحد و العشرين.

اخيراً المشروع البادئ، و الذي يبدو مختلفاً، مشروع النظر للمستقبل بعيداً عن إرث تلك المشروعات السياسية القديمة، و محاولا الخروج (او الهروب) من أثرها. هذا المشروع الرابع هو محاولات التغيير التي بدأت في العقد الأول من القرن الواحد و العشرين، بمحاولات ثقافية (في الرواية العربية، ثم بعدها في السينما ثم في المسرح، و مع كل ذلك، تعبيرات جديدة في الموسيقى). هذا المشروع تجلى، بالطبع، في مد الثورات العربية في العقد الماضي.

كل المشروعات (او كل حلقات السلسلة للبي بي سي) وجدت صدى. البعض أحب و حيا و البعض رفض و عبر عن رفضه. لكن التفاعلات بعد حلقة مشروع القومية العربية كانت، ليس فقط متدفقة، لكن أيضا ساخنة. قليلة كانت التحليلات، كثيرة كانت المشاعر. كثيرون أرادوا أن يُعَرفوني “من هو جمال عبد الناصر”. البعض وصل الى قمم الجبال (و منهم من ذكرني بوصف نزار قباني: “مسيح العرب الجديد”) و البعض نزل به الى مستنقعات التاريخ.

لعل تعبير أحد أعضاء فريق الاعداد (و هي سيدة انجليزية من أصول إيرانية) لي، أن العديد من التفاعلات ذكرتها بحرارة المشاعر في ايران مع و ضد الإمام الخوميني، كان دالاً. ذلك ان جمال عبد الناصر ما زال حتى الآن قابعاً في الوجدان العربي (و ليس فقط المصري) كنه كبير .. للبعض هو مصدر طاقة و الهام و تعبير عن اللحظة الوحيدة في العصر الحديث التي بدت فيها احتمالية صعود قوة عربية قادرة ذات إرادة و رافضة للخنوع امام المصالح الغير عربية .. و للبعض الأخر حمل ثقيل دفع المجتمع المصري ثم العربي ثمناً كبيراً لضعف أدائه و فشله.. و كان ان دفعتني حرارة المشاعر مع و ضد، ان أعاود زيارة ليس مشروع القومية العربية، لكن مشروع جمال عبد الناصر .. و لعل مرور خمسين سنة على موت الرجل تسمح برؤية فيها بُعد. و في البُعد مشاعر أقل و تفكير أكثر.