واحدة من أهم نجاحات الديمقراطيات الأوروبية كانت تطوير العلاقة بين المجتمع (الناس) والدولة، من فكرة الراعي (السلطة كعارف، ملم بكل شيء، و من ثم الأمر و الناهي) الى فكرة المحاسبة (تحول الناس من رعية الى محاسبين للسلطات و بالذات للسلطة التنفيذية). هذه الفكرة كانت في قلب تطور الحريات السياسية في اوروبا.

لكن الخوف، كعادته، يقلب الدنيا… و هذه المرة، الخوف من شبح موجود و لكن لا يُرى – فيروس لا يعرف أغلب الناس هل اذا جاءهم، سيمر كنزلة برد أم سيكون أخطر بكثير. هذا النوع من الخوف قديم. البشرية عاشته من قبل. لكن أخر مرة مرت الإنسانية بنوع مماثل من هذا الخوف كان منذ تقريباً قرن من الزمان، فيما عُرِف وقتها بالإنفلونزا الإسبانية. لكن الحال وقتها كان غير الحال الآن. أغلب أوروبا كان تحت حكم ملكي بعيد عن الديمقراطية. هيكل المجتمعات الأوروبية كان مختلف، حيث وقتها الغالبية من السكان في أسفل الطبقة الوسطى و الكثيرون في مرتبة الفقر. كما ان كل ذلك جاء قبل الحرب العالمية الثانية، و هي اللحظة المفصلية في تاريخ أوروبا في القرن العشرين.

اليوم نفس نوع الخوف يعود، لكن في مجتمعات و هياكل سياسية مختلفة، أكثر تطورًا بكثير، و لا شك، أغلبها نماذج ناجحة لأهم مبادئ الديمقراطية. لكن هناك متغيران ظاهران بوضوح.

واحد: الخوف من هذا المجهول و الغير مرئي و الذي يبدو بلا راد، دفع الناس للقبول، بل و الترحيب بدور حاسم للسلطة التنفيذية في حياتهم، لدرجة أن تقريبا كل أوروبا اليوم واقعيا تحت احكام عرفية و حالات طوارئ. هذا الوضع الغير مسبوق سياسياً يضع امام المجتمعات الأوروبية سؤال حول استمرارية ذلك التوازن الذي حققته على مدى السبعة عقود الماضية (منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية) بين وجود دولة قوية تؤدي مسئولياتها و بين وجود قيود شديدة على فعل السلطة (التنفيذية بالذات).

لا شك ان هذا السؤال مؤجل الى مرحلة ما بعد فيروس الكورونا. لكن ماذا لو استمرت المرحلة الحالية أكثر من مجرد عدد من الأسابيع .. ماذا لو استمرت بعض القيود على الحياة الاجتماعية في أوروبا لشهور .. في هذا السيناريو اوروبا لن تستطيع تجاهل هذا السؤال الحيوي حول مستقبل الديمقراطية فيها.

هناك أصوات بدأت تظهر تتحدث عن أن الخطر الحالي يحمل معه احتماليات الموت، بالإضافة الى تداعيات إقتصادية مؤلمة لمجموعات كبيرة في أغلب الدول الأوروبية، و من ثم أن الأحاديث عن الحقوق و الحريات في هذه اللحظة ليس فقط رفاهية بل نوع من الغباء، و ذلك رأي، أو صريخ، يمكن تفهمه … لكن مع ذلك، قيمة المكتسبات الأوروبية في السبعة عقود الماضية غالية جداً تستوجب معها التفكير في مستقبل هذه المكتسبات، خاصة إذا كان الوضع غير مسبوق، و بالذات لأن الخوف بادي و حاكم الكثير من العقول هذه الأيام.

المتغير الثاني فكري … كان واضحاً في السنوات القليلة الماضية ان فكرة الليبرالية السياسية و معها إقتصاد السوق الحر التي سادت في الربع قرن الماضي (منذ انهيار الاتحاد السوفيتي) تواجه تحديات، سواء من مشكلة عدم المساواة الاجتماعية و التي تفاقمت في أغلب الدول الغربية، بالذات في ذلك الربع قرن، او من ناحية صعود الصين، القادمة بنموذج سياسي-إقتصادي يمثل نقيضًا فكريًا لليبرالية السياسية و إقتصاد السوق. لكن القيود الشديدة التي كبلت السلطة التنفيذية في أوروبا كانت كابح امام أي أفكار قد ترى في النموذج الصيني الهامًا. الوضع الحالي، و ما يحمله من إحتمالات توسع كبير و طويل الأجل لصلاحيات السلطة التنفيذية في أوروبا قد يغير الأوضاع. و لعله من المؤكد الآن أن بعض التيارات السياسية في أوروبا سترى فوائد و ما يمكن (او ينبغي) نقله من النموذج الصيني. و حتى إذا حدث ذلك التغير ببطئ، فسوف يكون ضربة جديدة، و ربما مؤثرة جداً، لسيادة فكرة الليبرالية السياسية المتزاوجة مع إقتصاد السوق الحر.

هذه التغيرات القابلة للحدوث على الشواطئ الشمالية للبحر الأبيض المتوسط، يمكن أن تُحدِث تغيُرات مهمة في الجيوسياسة الأوروبية. لذلك، بالنسبة لنا، الأمر يتعدى المتابعة لمجرد النظر و الفهم. كالعادة في التاريخ، الكثير من التيارات السياسية الكبرى تبدأ بتغيرات في الأفكار الاجتماعية و الهياكل الاقتصادية في دول محورية، و بعدها تتشكل سُحب و تأتي رياح تذهب بعيدا عن الأماكن التي هبت فيها في البداية … و بعض هذه الرياح يكون مما تشتهيه او لا تشتهيه السفن المبحرة في بحور السياسة الدولية.