تجربتي مع جنوب أفريقيا طويلة الى حد ما. فلقد ذهبت اليها مرات عديدة في التسعينات، حيث كان والدي، غالباً، أول مصري استقر فيها مباشرة عقب انتهاء فترة الحكم الأبيض العنصري (الأبارتايد). و قد بدت تلك الدولة، لي كفتى في سنوات المراهقة، غريبة: قطعة من الغرب و لكنها في القارة السوداء. كما بدت، حسب كلام من كانوا حولي في ذلك الوقت منذ ربع قرن تقريبا، على أبواب تغيُر مهول، مع انتهاء سيطرة القلة البيضاء و انتقال الحكم، سلمياً، الى الغالبية السوداء. و كانت على الوجوه علامات قلق و استبعاد تلك السلمية المزعومة. و مع القلق، كان كثيرون، من اصحاب الثروات، او المهارات، يستعدون لترك البلد المتقدم الذي بدا لهم على وشك الانهيار و نقل حياتهم الى اوروبا او استراليا او الولايات المتحدة.

لكن الانهيار لم يأت…و ظن كثيرون – و بعضهم دبلوماسيون غربيون قد عرفوا القارة الأفريقية جيداً – ان الانهيار سوف يأتي عندما يختفي نيلسون مانديلا – ذلك البطل شبه الأسطوري في المخيلة الأفريقية و الغربية – من الساحة و الذي قاد و مثل الصراع ضد الأبارتايد. و لكن البطل ذهب، و جاء بعده رئيس بعيد جداً عن كاريزما البطل، و لكن أيضا لم يأتي الانهيار.

لكن، أيضاً، لم يأتي إرتفاع او انطلاق.

مع مرور السنوات، بدت جنوب أفريقيا ساكنة، تتحرك ببطئ شديد، و أحياناً تبدو و كأنها تدور في مكانها، لم تتصالح حقاً مع ماضيها، و لكنها لم تتركه متطلعة للمستقبل. و قد بدا ذلك لخبراء في الأسواق الناشئة هدراً لقدرات تملكها تلك الدولة قادرة على دفعها للأمام بخطوات واسعة، اذ لم تكن قفزات.

كان العقد الماضي بالذات حزيناً. احاطت بإدارة الرئيس زوما (الرئيس الثالث بعد سقوط الأبارتايد) اشاعات و مشاكل و تحقيقات، مما هو مالي و مما هو شخصي. تداخلت دوائر سياسية و مالية بشكل أزاح الضوابط و افسد جوانب مختلفة في الإدارة. تراجعت القدرات الاقتصادية، خرجت عقول اكثر، و بدت جنوب أفريقيا للمراقبين مثالاً لإضاعة ما قد كان محتمل.

لكن التصحيح جاء…ليس من خلال حركة شعبية كاسحة او معارضة قوية، و لكن من خلال القضاء، الذي استطاع شيوخه و شبابه التمسك باستقلاليته امام الإدارة الحاكمة. كانت معركة صعبة، خاصة و قد احاطت بالإدارة قوى مالية تملك وسائل اغراء و شراء.

في البداية بدت إدارة الرئيس زوما قادرة على مواجهة التحقيقات المختلفة التي فتحها القضاء. لكن مع استمرار قوة الدفع وراء هذه التحقيقات، و توسعها لتشمل كثيرين حول الرئيس، و مع وجود صحافة حرة بعيدة عن سيطرة الدولة و عن نفوذ القوى المالية التي احاطت بزوما، بدأت الدائرة تضيق حوله.

كان واضحاً مع نهايات ٢٠١٧ انه ليس للرئيس مستقبل. لكن الضربة القاضية جاءت من حزبه (المؤتمر)، و هو قبل كل شئ، حزب الجهاد ضد الأبارتايد، حزب مانديلا…أزاح الحزب رئيسه في عملية مؤلمة داخلياً، أخذت الكثير من قدراته، و لكنها نجحت…و عليه، ذهب زوما، و أُجريت انتخابات فاز فيها الرئيس الحالي رامافوزا، و هو النقيض السياسي لزوما.

لكن حزب المؤتمر، و لأول مرة منذ انتهاء الأبارتايد، يبدو مهتزا داخليا، و يكاد يكون متهما امام الكثيرون في قاعدته السياسية الكبرى في جنوب أفريقيا. و مع هذا، فان رامافوزا، و بالرغم من تجربته الطويلة (خاصة مع مانديلا) و بالرغم من نجاحه كرجل أعمال، الا انه بلا قاعدة واسعة داخل الحزب نفسه، و قد كان اختياره من داخل الحزب نتيجة لبُعده عن مراكز صنع القرار طيلة فترة حكم زوما. و بالإضافة الى كل هذا، فان اكثر من عقد من سوء الإدارة، بالذات في بلد بالتعقيدات الاجتماعية لجنوب أفريقيا، يترك الكثير من المشاكل، خاصة في علاقة الحزب الكبير بقاعدته من المواطنين السود، الذين رأوا في الفساد خيانة لهم و لكنهم يرون في الجانب الأخر – التكتلات الأكبر في المعارضة ذات التواجد الأبيض – الماضي، و بالذات الظلم و التباين الاجتماعي و الاقتصادي.

و من ثم، لم يكن غريباً ان ينجح حزب المؤتمر في الانتخابات البرلمانية الى أُجريت هذا الشهر في جنوب افريقيا – و لكن بأقل نسبة أغلبية في تاريخه. كما انه، ايضا، لم يبدو غريباً، ان لهجة الحزب و الرئيس رامافوزا، بعد الفوز، كانتا بعيدتين عن التفاخر. هناك احساس، في دوائر الحزب، و بين مراقبي هذا البلد، ان هذا النجاح الانتخابي قد يكون الأخير لحزب المؤتمر، و ان التراجع الطويل، على مدى الربع قرن الماضي، سوف يفتح أبواب السياسة هناك الى تيارات جديدة، ليست ملتزمة بما مثله حزب المؤتمر تاريخياً، و أيضاً لا تدور في فلك القوى المعبرة عن الأقلية البيضاء.

هناك ظواهر على ذلك، سواء في حركات مزارعين (و ملكية الأرض مشكلة كبرى في ذلك البلد)، او من داخل مجموعات جديدة عابرة للفصل العرقي بين السود و البيض. اغلب الظن، ان جنوب افريقيا ستمر بانتقال سياسي جديد، بطئ، يكون معلمه الأهم هو ظهور منافسون حقيقيون لحزب المؤتمر. و حيث ان جنوب افريقيا هي الدولة الأكثر تقدما في القارة تكنولوجيا و في العديد من الصناعات، كما انها الاقتصاد الثاني حجما بعد نيجريا، فان مستقبلها السياسي يستحق بعض المتابعة.