التاريخ و المستقبل في الانتخابات الإسبانية الأخيرة
الانتخابات البرلمانية في آسبانيا تستحق وقفة.
ذلك لان الحزب الاشتراكي هناك حقق نجاح متميز. أولاً: حصل على اكثر من ثلث الأصوات، و هذا في السياسة الأوروبية هذه الأيام، إنجاز. ثانياً: بالرغم من انه يحتاج للدخول في تحالف يمكنه من الحصول على أغلبية في البرلمان، الا ان نجاحه في الاستحقاق الانتخابي يعطيه حق وضع أفكاره بقوة على مائدة المحاورات الحزبية. ثالثاً: ان الحزب، منذ تقريباً عقد من الزمان، يُزيد من نسب تمثيله في البرلمان، أي انه من الأحزاب المعدودة في اوروبا التي تبدو مُوسِعة من قاعدتها الشعبية. رابعاً: ان نجاح الاشتراكيين الإسبان يأتي بينما أغلب أقرانهم في اوروبا في تراجعات كبرى، جعلت كثيرون في القارة يتصورون ان الاشتراكيون الأوروبين يمرون بمرحلة مأساوية.
جزء من نجاح الاشتراكيين الإسبان نتيجة لسياسات التقشف الاقتصادي التي اضطرت اسبانيا للأخذ بها للحصول على دعم مالي أوروبي، و من ثم، للخروج من الضائقة الاقتصادية العنيفة التي مرت بها بعد الأزمة المالية في ٢٠٠٨.… الا ان هناك نقطتين تستحقا إلقاء الضوء عليهما، لفهم وضع سياسي مهم و مؤثر في كل القارة الأوروبية.
واحد: ان نجاح الاشتراكيين في الانتخابات، سواء الماضية منذ اربع سنوات او التي جرت الشهر الماضي، أتيا و آسبانيا تمر بمرحلة تاريخية، بين تنحي الملك خوان كارلوس عن العرش و تولي ابنه. و التغير هنا أكثر من مجرد تبدل في الأشخاص. فانتقال التاج الى ملك شاب – و الأهم، لم يكن داخل لحظة الانتقال من حكم الجنرال فرانكو الى بداية الديمقراطية (التعددية الحقيقية في نهاية السبعينات) – ادى الى ابتعاد العرش في السنوات القليلة الماضية، عن دوره التقليدي في العقود الأربعة الماضية، من الحامي الدستوري للديمقراطية، الى رمز الدولة – و فقط.
في نفس الوقت، كان هناك تحول أيضاً في دور الكنيسة. وهو إن كان أقل وضوحاً، الا انه ليس أقل تأثيراً. فالكنيسة كانت، دائماً، واحدة من اهم قلاع المحافظين الإسبان، و هم تاريخياً المؤيدين لوحدة بين العرش و الجيش، تحكم اسبانيا – و تقيها، حسب هذا الفكر، مخاطر الانزلاق في كوارث سياسية…(و الخلفية هنا، هي الحرب الأهلية الإسبانية في ثلاثينات القرن الماضي، و قد كانت واحدة من الصراعات التي صاغت التاريخ الاوروبي في ذلك القرن). الا ان التراجع في الدور الاجتماعي للكنيسة (كما حدث لكل المؤسسات الدينية في اوروبا) أعقبه تراجع في النفوذ السياسي لها. كما ان الملك السابق و بالرغم من حفاظه على دور العرش، كحامي للديمقراطية، الا انه قد أبعد العرش عن التقائه التاريخي بالكنيسة. و مع التغير في ما يمثله الجالس على العرش، ازداد البعد بين القصر و الكنيسة. و الحاصل، ان كل ذلك، لم يأخذ فقط من دور الكنيسة، و لكنه، أيضاً، آخذ من الهيكل التقليدي للمحافظين في آسبانيا.
و هنا تأتي النقطة الثانية والمهمة… ان صعود اليساريأتي بعد تغير كبير في هيكل اليمين الإسباني، و قد كان، لأكثر من أربعة عقود العمود الفقري للمؤسسات الفاعلة في الدولة (الكنيسة و الجيش).
هذا التغير كان له صدى واسع في اوروبا. ذلك ان اسبانيا، الآن، تلحق بإيطاليا، و الاثنان يلحقان بشمال اوروبا، في هذا التغير في هيكل اليمين، و من ثم، في التطور في ادوار مؤسسات كانت وازنة – و أحياناً مسيطرة، و لو من وراء حُجب – على السياسة في هذه الدول.
والواقع ان اليمين الاوروبي، بشكل عام، يمر بما هو أكثر من ذلك. ان ظهور أقصى اليمين (المتطرف أحياناً) في العديد من دول اوروبا – و منها اسبانيا – يحصد أصوات طبقات خائفة من التغيرات الاقتصادية التي تبدو بلا راد…و لكن التطرف، في نفس الوقت، يُبعِد اجزاء كبيرة من الطبقات الوسطى، كانت تقليدياً قريبة من اليمين و ما يمثله. و عليه، فإن الفكر الذي صنع التيارات المحافظة في اوروبا في النصف الثاني من القرن العشرين، يمر بلحظة صعبة للغاية.
لذلك، فان استمرار صعود اليسار في اسبانيا، في ظل هذه الخلفية، يمثل ما هو ابعد من مجرد صعود فكر اقتصادي-سياسي مضاد لسياسات التقشف. الأهم، انه يمثل صعود قوى سياسية الى دوائر صنع القرار، هي ابعد ما تكون عن الهياكل التي حكمت الدولة الإسبانية لعقود – و في لحظة تمر بها هذه الهياكل بتغيرات مؤثرة جداً في وجدان المجتمع الإسباني و في مستقبل السياسة الإسبانية.