دافيد بن جوريون، او دافيد جرووين (اسمه الحقيقي)، لم يرضى ابداً ان يتحدث بالYiddish، لغة الجيتو اليهودي في أوروبا طيلة القرون الوسطى. الشاب البولندي الذي هاجر الى فلسطين عام ١٩٠٦، كان دائماً مصراً على الحديث بالعبرية: ليس فقط لغة قومه الأصلية، و لكن الأهم في نظره، اللغة الرسمية للدولة التي أرادها لليهود في فلسطين.

هناك عدد من الكتب حول سيرة بن جوريون. لكن مؤخراً ظهر كتابان يتناولان حياة الرجل بشكل نقدي، و أهميتهما انهما من مؤرخين اسرائيلين و معتمدين على الأرشيف الرسمي للدولة.

النقد هنا ليس لمشروع الرجل…بن جوريون كان و سيظل الأب المؤسس لإسرائيل، ليس فقط كدولة و لكن كفكرة قابلة للوجود. هذه نقطة مهمة في الوجدان الإسرائيلي، لإن الفكرة الصهيونية التي قدمها هيرتزل (مفكر الصهيونية الرئيسي) في نهايات القرن التاسع عشر كانت فلسفية الى حد بعيد، و نابعة من نقاشات في غرب أوروبا (في أنجلترا، و فرنسا، و النمسا بالتحديد) حول مشروع سياسي لليهود يأخذ هويتهم من بعدها الديني و الإثني الى إطار مجتمعي. و المعنى هنا ان هيرتزل رأى دور اليهودية في مشروعه السياسي مجرد دور فلسفي و ليس شيء أخر…و هو هنا مثله مثل كثيرون من المفكرين اليهود الأوروبين في قرون ما بعد عصر النهضة الذين أرادوا نقل اليهودية من كونها دين الى فلسفة، او الى تصور للكون و للإله – و قد كانوا متأثرين هنا بفكر القبالة في اليهودية.…هذه الأفكار كانت، و لا زالت مبهمة بالنسبة لكثيرين. و لذلك فهيرتزل كان و لا يزال في الوجدان الإسرائيلي فيلسوف و مفكر، قدم فكرة، او زرع بذرة…لكن بن جوريون كان من أخذ هذه الفكرة من المجرد و المبهم الى العملي و الفعلي، كان من سقى البذرة لتنبت. لذلك، فإن الرجل، في النظرة الإسرائيلية للتاريخ، هو من أوجد الدولة.

النقد ليس للمشروع إذن، و لكن للأسلوب، لطريقة العمل، و أحياناً كثيرة لشخصية الرجل.

الأمثلة كثيرة – و بالذات في كتاب توم سيجيف “دولة بأي ثمن” الصادر هذا العام. على سبيل المثال، بن جوريون لم يعمل كثيرا على بناء علاقات حقيقية مع تيارات سياسية كبرى في أوروبا، سواء قبل او بعد الحرب العالمية الثانية. هناك من يقولون ان الرجل رأى من بعيد سقوط الإمبراطوريات الأوروبية و صعود المارد الجديد القابع خلف المحيط الاطلنطي: الولايات المتحدة. تصوري ان هذا ليس السبب الحقيقي، و أن الرجل ببساطة، و كما تدل سيرته، رأى عمله على الأرض و ليس في صالونات لندن و باريس و فيينا و برلين. أياً كان السبب، فهناك رأي يقول انه ببعده عن التواجد اليهودي القوي في أوروبا – بالذات قبل الحرب العالمية الثانية – قد فرض على المجتمع اليهودي في فلسطين فكرة الاشتراكية التعاونية التي تطورت فيما بعد الى تعاونيات الكيبوتز، و قد كانت لعقود العمود الفقري للاقتصاد الإسرائيلي. و هي في كل التقييمات، ليست تجربة اقتصادية ناجحة …(و الحقيقة، أن التطور الفعلي للإقتصاد الإسرائيلي جاء في أعقاب هجرة اكثر من مليون يهودي روسي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، اغلبهم على درجات عالية من العلم في معارف مختلفة، و كلهم جاؤوا بوجدان روسي، شديد الاختلاف عن التجربة الإسرائيلية قبل التسعينات).

مثال أخر من النقد لأسلوب عمل بن جوريون كان استعداده للتضحية بأي شيء – بما فيه تصورات في الوجدان اليهودي لضرورة الالتزام بقيم معينة – في سبيل خلق الدولة. النقطة هنا ان بن جوريون، على عكس الكثير من المفكرين الذين طوروا فكرة الصهيونية – لم يكن لديه أي شك في حتمية الصراع مع العرب، و ربما افي نظره، في ضروريتها…ايضاً لم يكن لديه أي شك في ضرورة استعمال كل الوسائل للانتصار في هذا الصراع من أجل إيجاد إسرائيل عام ١٩٤٨.

نقد أخر يدور حول رؤية الرجل لنفسه. بن جوريون رأى في نفسه تجسيد لإسرائيل، و لعل ذلك كان مفهوماً لرجل قضى اكثر من ستين سنة يقود مشروعاً سياسيا، رآه يتحقق شيئا فشيئا، و أعتبر – و له في ذلك بعض الحق – ان جهوده وراء هذا التحقق. لكن تصوره هذا لدوره جعله يبني حول شخصه ليس فقط هاله، و لكن ايضاً مريدين و اتباع، هم ايضاً اعتبروه السياسي الأول، و الأهم: صاحب القرار النهائي. و المشكلة ان ذلك التصور و الوضع استمرا حتى بعد ان ابتعد الرجل عن رئاسة الوزارة. و قد أدى هذا الى تضاربات و تعقيدات في عملية صنع القرار في بلد اعتبر نفسه منذ لحظة ولادته دولة ديمقراطية.

هذا النوع من الدراسات التاريخية النقدية يستحق الاهتمام، ليس فقط لانه يفتح لنا أرشيفات تحمل الكثير من الوقائع و تقدم العديد من التحليلات، خاصة و ان الدولة المعنية هنا لاعب رئيسي في شرقنا الأوسط ..و لكن الأهم، لأنه ينظر للماضي بدون تحفظات و تابوهات كثيرة. و ذلك مثال لقراءة التاريخ “بجد”.