الفكرة المسيطرة على كثير من مراقبي الشئون الدولية هذه الأيام هي انتهاء عصر العولمة و عودة فكرة الدولة. و المقصود انه في العقود الثلاثة الماضية كان هناك ازدياد مهول في حرية التجارة، اعتماد على شبكات انتاج عابرة للقارات، تكامل بين صناعات مختلفة جعل مثلاً اغلب دول أوروبا تعتمد على استيراد اكلها بدل من إنتاجه محليا، خروج رأس المال عن سيطرة أي دولة و ووجوده كلاعب منفرد في هذه الأسواق المفتوحة، و حدوث كل ذلك مع قفزات كبرى في الاتصالات و الطيران قربت المسافات و ألغت الحواجز. هذه العولمة أضعفت فكرة الدولة، لا شك اقتصادياً و لكن أيضا ثقافيا و سياسيا. ذلك انه مع ارتباط أي سوق محلى بالخارج في أهم الصناعات و القنوات الإنتاجية، و اعتماد أي مجتمع في أمنه الغذائي على سواه، و في اختفاء الحدود بين الداخل و الخارج في الثقافة و الفكر و الترفيه .. مع كل ذلك، تَضعُف الدولة. و قد كان هذا هو الحادث، بالتدريج، في العقود الثلاثة الماضية.

الوضع الذي نشأ في العالم بعد تفشي فيروس الكورونا جعل مراقبين كثيرين يرون انقلابا كاملا في الصورة. في هذا الرأي الصاعد الآن، ستحدث تغيرات كبرى في هياكل صناعات اقتصادية مختلفة سيكون اغلبها في اتجاه الاعتماد على الإنتاج المحلي، ليس فقط في الأساسيات مثل الغذاء، و لكن في الكثير مما ستراه الدول على انه ضروري لأمنها القومي.

هذه النقطة، حول رؤية الدولة، هي في حد ذاتها جديدة و مُعبرة عن هذا الفكر الصاعد، حيث أن نفوذ أي دولة في تحديد ضرورات الإنتاج المحلي او غيره من القرارات الاقتصادية الصناعية كان ضئيلًا في العقود الثلاثة الماضية، و لكن هذا النفوذ، بل القرار، سيكون حاسما في مرحلة ما بعد الكورونا. أضف الى ذلك، ان الارتباطات الدولية العابرة للقارات التي شكلت السوق العالمي في الثلاثين عاما الماضية لا شك ستتراجع كثيرا. هناك صناعات كانت في قلب فكرة العولمة، مثل الطيران، ستواجه صعوبات شديدة. رؤوس الأموال، حتى تلك التي لن تتلقى خسائر فادحة في الشهور القادمة، ستكون شديدة الحذر، ليس فقط بسبب التراجعات الاقتصادية و التغيرات في هياكل الصناعات، و لكن أيضا بسبب تغير الأوضاع السياسية التي لن تقبل دخول تدفقات مالية كبرى باحثة عن أرباح طائلة و سريعة بينما هناك حالة ركود و ازدياد في الفقر في المجتمع الذي تدخله تلك الأموال. كل هذه التغيرات و غيرها، سيُقوي مفهوم الدولة، و الى حد كبير، سيُنهي عصر العولمة الذي بدأ مع انهيار الاتحاد السوفيتي و ما بدا وقتها على انه انتصار الليبرالية و سيادة السوق الحر.

لكن هناك نقطة مهمة بعد كل ذلك … و هي التوقعات و المخاوف في المجتمع. صحيح ان مفهوم الدولة سيزداد قوة في الأشهر و السنوات القادمة، لكن هذا لن يعني بالضرورة أن كل الدول ستزداد قوة. ذلك ان الكثير من الدول، في أنحاء مختلفة من العالم بما فيها مناطق في العالم العربي، مرت في العقود الثلاثة الماضية، و خاصة في العقد الماضي، بتراجعات كبيرة في القدرات. و في عدد من الدول هذه التراجعات أخذت الكثير من مركزية الدولة و قدرتها على الفعل الحاسم. معنى ذلك، انه في الوقت الذي سيزداد فيه إعتماد أغلب طبقات مجتمع ما على دولته، في الكثير من الأحيان لن تستطيع الدولة ملاقاة ذلك الإعتماد. و في عدد من الحالات ستكون نتيجة ذلك زيادة في الخوف، و ليس الحد منه، و بداية ظهور ضعف الدولة و تجوف مؤسساتها بجلاء امام شعبها.

التغير المهم إذن يتعدى انتهاء عصر العولمة كما عرفناه في الثلاثين عاما الماضية، و عودة فكرة سيادة الدولة و تحكمها، خاصة في هياكل الاقتصادية و الاجتماعية. التغير ذاهب الى وجود بعض الدول، او وقوعها في في هوات تكون بداياتها مشاكل إقتصادية كبرى و نهاياتها انقسامات مجتمعية الى كانتونات، تُنهي واقعيًا و في المستقبل المنظور مركزية هذه الدول.

هناك رأى يرى ان قوة المجتمعات في التماسك و التلاحم و تقديم مفهوم عمل الخير و مساعدة الغير، سيكون الفارق بين الدول التي ستمر بشكل معقول من هذه الجائحة و بين تلك التي ستقع. تصوري أن ذلك غير صحيح. هناك مجتمعات لديها أعراف قديمة و قنوات فعالة و فيها قدر كبير من الثقة بالأخرين، سيجعلها أكثر قوة في الأسابيع و الشهور القادمة. لكن العامل الرئيسي الذي سيُحدِد قدر المشاكل السياسية – و في أحوال كثيرة، استمرارية الدولة او بداية تأكلها – سيكون ثقل فكرة الدولة فيها و قوة مؤسساتها سواء العامة أو الخاصة على ملاقاة الاحتياجات الرئيسية لمجتمعها.

لذلك، فإن الناظر الى عالم ما بعد هذا الفيروس سيرى إقتصادا مختلفاً، و أيضا خريطة مختلفة.