حديث رئيس مجلس إدارة و مدير تنفيذي سابق لجولدمان ساكس يستحق التوقف أمامه، ليس فقط لأن مثل هذا الحديث نادر الحدوث، و لكن أيضاً لان ذلك البنك بالتحديد كان لأكثر من ثلاثين سنة – حتى منتصف العقد الماضي – المؤسسة الأكثر نفوذًا في أهم دوائر المال و الأعمال في الغرب، و ذات نفوذ قوي في الحكومة الامريكية، لدرجة دعت البعض لتسمية المؤسسة Government Sachs و ليس Goldman Sachs.

المتحدث هنا للويد بلانكفاين، و قد كان و لا يزال مثيرا للانتباه. الرجل كان على رأس “جولدمان” في المرحلة التي سبقت مباشرة الأزمة المالية في ٢٠٠٨ و كان في قلب المباحثات لإنقاذ النظام المالي العالمي (او الغربي) التي أعقبت لحظة الانفجار في صيف ذلك العام، كما انه كان واحد من أهم الشهود امام الكونجرس الأمريكي عندما نظر في أسباب ما حدث. لكنه و بالرغم من كل ذلك، لم يشأ أن يتحدث عن ما شاهده و شارك فيه، حتى بعد أن ترك رئاسة جولدمان. كما انه، على عكس تقريبا كل من سبقوه في رئاسة البنك، لم يخرج منه الى منصب رفيع في الادارة المريكية .. و لعله مهمًا التذكير، ان وزراء الخزانة (المالية) في إدارات بيل كلينتون و جورج بوش و دونالد ترامب جاءوا من قمة الهيكل الإداري لجولدمان، كما ان اهم مستشار اقتصادي لباراك أوباما كان من نفس الدائرة.

سكوت و ابتعاد بلانكفاين لفترة طويلة جعلت حديثه الآن مثيرا للاهتمام.

الحديث كان على غذاء طويل مع ايدوارد لوش، و هو صحفي بريطاني مقيم في نيويورك و واحد من أهم مراقبي الولايات المتحدة. اما التركيز في الحديث فكان عن المستقبل بأكثر مما كان عن الماضي و ما حدث قبل و اثناء الأزمة المالية.

ثلاث نقاط اثارها بلانكفاين قد تكون مهمة لمتابع لمجريات الولايات المتحدة.

الأولى عن الانتخابات الرئاسية في ٢٠٢٠. بلانكفاين، كصاحب ثروة تتعدى المليار دولار، قد يبدو مؤيد طبيعي للحزب الجمهوري، خاصة و ان الحزب يتبنى منذ عقود فكرة خفض الضرائب كوسيلة رئيسية لدعم المبادرة و أخد المخاطر و خلق قوة فِعل في الاقتصاد الأمريكي. كما ان بلانكفاين قد دخل في مناوشات عدة (على تويتر) مع بيرني ساندرز (القادم من يسار الحزب الديمقراطي). بالرغم من ذلك، فان التيار الاجتماعي الذي ينتمي اليه بلانكفاين كان دائماً شديد القرب من الحزب الديمقراطي، و من ثم فإن الرجل، و قد وضح انه قابل لفكرة إعادة انتخاب دونالد ترامب، يفتح اذهان المتابعين على انشقاقات كبيرة تحت السطح في الحزب الديمقراطي، و هي مؤثرة بالذات في تمويل الحزب.

النقطة الثانية متعلقة بهيكل القوة في الولايات المتحدة. قصة تراجع أرباح و نفوذ جولدمان ساكس كثيرا ما يُنظر اليها من زاوية التغيرات الكبرى التي حدثت في عالم البنوك بعد الأزمة المالية. بالذات القواعد الصارمة التي وضعها الاحتياطي الفيدرالي حول أخذ المخاطر و نسب الدين لرأس المال و التعامل في المشتقات المالية و غيرها. كل ذلك صحيح. لكن قبل و بعد ذلك، هناك نقطة متعلقة باتجاهات صنع الثروة في الولايات المتحدة، و هي ان المركز هنا قد انتقل بشكل كبير من صناعات (او خدمات) دائرة في فلك الأسواق المالية الى صناعات دائرة في فلك تكنولوجيات الاتصال و المعلومات. بلانكفاين لمس ذلك بإشارات الى تغير اتجاهات حركة القوة في الولايات المتحدة.

النقطة الثالثة، بالضرورة، متعلقة بالأزمة المالية، فلم يكن ممكنا لمراقب مثل لوش ان يجلس لفترة طويلة مع بلانكفاين بدون ان يأخذ منه و لو رؤية سريعة للماذا حدث ما حدث. إجابة بلانكفاين لم تحمل معلومات جديدة و لم تقدم تفسير مختلف عما وُضِع من قبل من عشرات المحللين. لكن الرجل، ربما بعفوية أهل نيويورك التقليدية، قال انه في الغالبية الساحقة من الحالات، و كما ظهر من مئات الآلاف من الأوراق التي كُشِف عنها من تحقيقات أُجريت مع أهم بنوك الولايات المتحدة و منها جولدمان، أن سوء النية لم يكن موجود. ما كان سائدًا في أروقة الكثير و الكثير من المؤسسات المالية كان “غباء”. هنا حدق بلانكفاين في وجه محدثه قبل أن يقول: “و الغباء ليس جريمة”.