الحلقتان السابقتان من هذه السلسة كانتا عن فشل لمشروع جمال عبد الناصر (في سوريا) و نجاح (في الجزائر)، و السؤال الأكبر هنا كان عن مدى قدرة المشروع على تحويل سردياته عن الوحدة العربية الى سياسات مع الدول العربية. و المحور الأهم هنا كان سياسة جمال عبد الناصر تجاه السعودية. و الأهمية نابعة من أن السعودية كانت بحكم الحجم الجغرافي و النفوذ السياسي في الجزيرة العربية و بالطبع الثروة المالية، الدولة العربية الأكثر تأثيرًا في كل المشرق العربي.

لكن العلاقة مع السعودية كانت معقدة منذ البداية، و لأسباب جوهرية.

واحد: أساس الأمن السعودي قام على علاقة خاصة، في البداية مع بريطانيا ثم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية مع الولايات المتحدة الامريكية. و قد كانت تلك العلاقة وقتها أهم أسس الأمن السعودي. و عليه فإن المملكة السعودية، حتى و إن تعاطف بعض امرائها مع المشروع الناصري، لم يكن ممكنا لها أن تذهب مع جمال عبد الناصرالى مواجهة مع الغرب.

اثنين: تعريف المشروع الناصري لنفسه على فكرتي التحرر و التقدم (كما تحدثنا في حلقة سابقة من هذه السلسلة) وصل به بسرعة الى حائط سد مع النظم الملكية العربية، التي راءها المشروع الناصري على انها رجعية، بمعنى انها ضد حركة التحرر و التقدم التي يقودها ذلك المشروع في كل انحاء العالم العربي.

ثلاثة: اندفاع المشروع الناصري الى داخل الجزيرة العربية نفسها – الى اليمن لمساعدة حركة الجيش هناك ضد نظام الإمامة – كان تطوراً، رأته العائلة السعودية شديد الخطورة عليها. لأن في الفِكر السعودي، سقوط نظام ملكي في الجزيرة العربية سيل يعقبه طوفان.

أربعة: ان تلك الرؤية السعودية - و هي مفهومة - استدعت تدخلاً سعودياً مباشراً و كبيراً في اليمن لمساندة (و تطوير) نظام الإمامة. و كان الحاصل هنا مواجهة سياسية و إعلامية و عسكرية شبه مباشرة بين المشروع الناصري و المملكة السعودية.

خمسة: كما هو الحال في كل المواجهات التي تصل الى تلك الدرجة من السخونة، فإن الأطراف تلقي بالقفازات جانبًا. و الظاهر من بعض الشهادات التي خرجت الى العلن في السنوات القليلة الماضية، ان بعض الدوائر في الجزيرة وصلت في قلقها من تمدد المشروع الناصري الى خوف عميق، اوصلها الى زيادة سعير النار في رؤية قوى كبرى (أهمها أمريكا) للمشروع الناصري.

ستة: ان الألة الإعلامية للمشروع الناصري، و قد كانت وقتها أولى المحاولات العربية للتأثير الواسع في كل انحاء العالم العربي، وصلت في هجومها على المملكة السعودية الى ما ترك في النفوس الكثير من الاستياء.

سبعة: كان هناك القبول و النفور الإنساني .. بمعنى ان جمال عبد الناصر مَثَلَ الطبقة الوسطى المصرية التي أعطت ظهرها لتجربة الكوزموبوليتانيه في العالم العربي (التي كانت نموذج التنمية و التقدم في النصف الأول من القرن العشرين)، ثم أصبح في وجدان الكثيرين تجسيداً لتمنيات و أحلام طبقات وسطى و فقيرة كبيرة جداً في كل أنحاء العالم العربي. بينما في المقابل فإن الدائرة المؤثرة وقتها في قرار المملكة السعودية (و هي تلك حول الملك فيصل، سواء عندما كان ولياً للعهد او بعدما وصل الى الحكم) كانت بدأت تقترب من و تتعود على اعلى درجات الرغد الغربي، و خاصة الأوروبي. و كان لذلك الفارق الشاسع في أسلوب الحياة و ما يزرعه في الوجدان و التصورات، دور كبير في تباعد الأشخاص، و ليس فقط الرؤى السياسية و المصالح.

كل ذلك جعل العلاقة الناصرية-السعودية مشحونة و معقدة. و بالرغم من أن العلاقة بدت و كأنها تحسنت كثيراً بعد هزيمة حرب الستة أيام في ١٩٦٧ و اجتماع العرب (فيما قيل في العلن وقتها) على فكرة التحدي و مساندة دول المواجهة (و أهمها وقتها مصر)، فإن رواسب المشاكل في العلاقة كانت اقوى و اعمق.

و اذا كان سهلا في حالة تجربة الوحدة مع سوريا ان نُدين أسلوب تفكير وعمل المشروع الناصري .. و ان نعطيه حقه في حالة قربه و مساعدته للثورة الجزائرية .. فإن الحكم على تفكير و عمل المشروع الناصري في علاقته بالمملكة السعودية أكثر صعوبة.

أولاً: لأن طموحات المشروع الناصري وقتها كان لها ما يبررها. و صراعه مع ما سماه قوى الرجعية في العالم العربي كان منطقياً إذ لم يكن حتمياً .. ثانيا: لأنه بالرغم من المشاكل المهولة التي أدى اليها التدخل المصري في اليمن في أدوات العمل و القوة المصرية، فإن فكرة وقوف المشروع الناصري بما مثله وقتها بجانب ثورة عربية ضد أكثر النُظم العربية تخلفاً وقتها، كان أيضا مفهوما .. و ثالثا: لأن التحالفات التاريخية الحاكمة في قرار المملكة السعودية وقتها حَتَمَ من المواجهة السياسية بينها و المشروع الناصري.

لكن مع كل ذلك يبقى ان المشروع الناصري سار في عداء كبير، تطور ليصبح مواجهة حقيقية مع الدولة العربية الأهم في كل المشرق العربي، و هي وقتها (و الى الآن) دولة ذات قدرات كبيرة للغاية .. كما أن المشروع الناصري سار في تلك المواجهة باساليب كانت كثيراً فاقدة للفعالية و للكفاءة.

هناك من الناصريون من يقولون ان ما تركه جمال عبد الناصر في الوجدان العربي، اثبتت الأيام انه اعمق تأثيراً من ما تركه معارضوه و اعداءه. و في هذه النظرة، فإن تمثيله لفكرة الوحدة العربية (حتى و لو في الامنيات) نجح، بالرغم من اخفاقاته في ملفات عدة مهمة .. لكن هناك ايضاً في المقابل رأي يرى أن الإخفاقات، في الفكر أو في التنفيذ، و أحيانا في الاثنين، أبقت أثر الرجل و مشروعه في عوالم الوجدان، بعيدة عن الواقع. بينما فِعل الأخرون بقى و استمر و زاد من نفوذه و تأثيره.