الانتخابات المحلية في أي مكان في العالم ليست الحدث السياسي الأكثر إثارة. و لكنها في أغلب الأحوال دالة على ما هو أتي .. و لعل تلك النقطة مفتاح قراءة الانتخابات المحلية الفرنسية في يونيو ٢٠٢١.

حزب الرئيس ايمانيول ماكرون خسر. حزب أقصى اليمين الذي تقوده ماري لوبان خسر. أي أن المرشحان الرئيسيين للانتخابات الرئاسية في ربيع ٢٠٢٢ خرجا من تلك الانتخابات بضرورة اما تغيير السياسات او الخطاب او الاثنين .. هناك من كسبوا، و لكن طريقهم لقصر الاليزيه (مقر الرئاسة الفرنسية) طويل، و الفترة الزمنية الباقية قبل السباق (الانتخابات الرئاسية) قصيرة .. لكن ربما الأهم في نتائج تلك الانتخابات هو حجم عدم لامبالاة عامة الناس بها. فقط ٣٠ بالمائة ادلوا بأصواتهم في بلد يُعد عن حق واحد من قلاع الديموقراطية الغربية و صاحب تاريخ كبير من الصراعات و التطورات المجتمعية التي وصلت به الى تلك الديمقراطية.

و هذا ما قد يكون دالًا .. فرنسا غالبًا تمر بحالة من الennui : التملل حيث الطاقة موجودة و لكنها غير معبأة، لا تعرف الى اين تنطلق لتُحدث تغيير. انه تملل من كل شيء و أي شيء. حالة زهق و ما يبدو انه عدم اكتراث حتى بما يحدث للمجتمع و من يقوده و كيف يقوده. تلك حالة تبدو امام كثيرين نوع من التراخي قد يدعو مراقبين الى عدم الاهتمام بفرنسا، خاصة و أن جارتها المانيا تستعد لتغيير كبير جدًا في حياتها السياسية و هو انتخابات سبتمبر ٢٠٢١ و التي ستُحدد من سيخلُف انجلا ميركل في المستشارية هناك .. لكن ذلك التصور لحالة فرنسا خاطئ و إشاحة النظر عن ما يحدث في المجتمع هناك فيه فقر في الحكمة، لأن هذا التملل الفرنسي يحمل مخاطر.

الخطر الأول ان يؤدي التملل الفرنسي الى انفجار سياسي شبيه بالبريكسيت البريطاني. في هذه الحالة الانفجار السياسي لن يكون الخروج من الاتحاد الأوروبي، و لكن انتخاب قيادة من اقصى اليمين لرئاسة فرنسا. و هذا إن حدث سيكون نهاية الجمهورية الفرنسية الحالية و بدء مرحلة جديدة في الحياة السياسية و الاجتماعية هناك. كما انه سيُغير تمامًا طريقة عمل الاتحاد الأوروبي و الأهم سيُغير مساره و مستقبله.

الخطر السياسي الثاني هو ان يرفض الناخب الفرنسي كل المتقدمين له. هذا لن يخلق فراغ، لأن النظام الجمهوري و طريقة الانتخاب في فرنسا يضمنا وصول مرشح الى قصر الايليزيه. لكن لا النظام و لا الطريقة يمنعا وصول مغامر من خارج القواعد الحزبية و مؤسسات العمل الاجتماعي الفرنسية الى قمة الدولة هناك – مغامر قد يرى في نفسه بطل قادم للتعبير عن الغضب الكامن تحت التملل. و الخطر هنا ان التاريخ علمنا مرات بعد مرات ان المغامرين السياسيين القادمين الى السلطة بلا مشروعات جادة و لا تجارب طويلة ثقيلة، لكن بمجرد تعبيرات عن مشاعر فضفاضة، يأخذون بلدانهم الى طرق وعرة تكون كلفة الرجوع منها عالية سواء في الزمن او الطاقة او مرارة التجربة.

الخطر الثالث هو التحالفات اللا طبيعية – تحالفات بين قوى شديدة البعد عن بعضها في الأفكار و السياسات الاقتصادية و في تصورها لمستقبل المجتمع، و لكنها تجد ان الانتخابات أدت الى تفتت في الحصص، و عليه تتحالف تلك القوى لتوصل مرشح واحد الى قمة السلطة، و تصورها ان ذلك افضل من الوجود في الظل بعيدًا عن مراكز القرار .. الخطر هنا ايضًا ان تجارب تاريخية كثيرة علمتنا ان تلك التحالفات ليست فقط واهية و لكنها بلا قيمة لأن المرشح يصبح بعد وصوله للسلطة معبرًا عن ذاته و ليس عن اتجاهات سياسية معروفة او حتى عن برامج انتخابية محددة.

المهم هنا اننا نتحدث عن فرنسا، و هي ما هي في أوروبا – ليس اقتصاديا و قد تراجعت، و ليس سياسيًا و قد كانت منذ عدد من السنوات و لا زالت في دوار، و لكن ثقافيا و وجدانيًا .. البعض قد لا يهتم بتلك الجوانب، و يراها خلفيات أقل أهمية من النفوذ السياسي الحقيقي و القدرات الاقتصادية الملموسة. و ذلك خطأ جسيم كثيرًا ما يتكرر في التقديرات السياسية (و أغلبها كما علمنا التاريخ خاطئة)!

مكانة فرنسا الثقافية و الوجدانية امام نفسها و في أوروبا تمنحها أهمية خاصة، لأن من عمق الفكر و التجربة الفرنسية خرجت أهم الأفكار التي شكلت مبادئ الليبرالية الغربية .. صحيح ان أسس الجمهورية الأمريكية و أفكار ابائها المؤسسين كانت التجربة السياسية الأهم في التاريخ الانساني الحديث و التي أخذت الأبصار في كل المجتمعات الغربية تقريبا، و منها خرجت العديد من المبادئ الدستورية الحديثة. و ايضًا صحيح ان الفكر البريطاني في الاقتصاد السياسي كان ما ساد في أهم الدوائر السياسية الغربية في النصف قرن الماضي. لكن فرنسا شكلت الوجدان .. و المهم هنا، ان التجربة الأمريكية قد تخرج عن مسارها التقليدي برئيس او بتيار، و الأفكار البريطانية قد تمر بمراحل فيها من غرابة الأطوار ما هو تعبير عن الشخصية الإنجليزية .. لكن ضياع المعنى من المكان صاحب النفوذ الأكبر على الوجدان الغربي – فرنسا – خطير، ليس فقط على المشروع الأوروبي (خاصة في لحظة فيها مراجعات للغاية التي هو ذاهب اليها) و لكن على فكرة الليبرالية نفسها.