ڤوروتينتيسڤ تصور بعض ما هو قادم. الساعات القليلة التي قضاها داخل أحد قصور عائلة رومانوڤ – قياصرة روسيا – أعطته إحساس بالفراغ. لم يشعر بهيبة و لم تأخذه مظاهر الثراء، بقدر ما أحس بأن من حول القيصر سائرون و هم نيام نحو مستقبل قريب سيُعلَقون فيه على المشانق. اجتماعات هيئة الأركان تُظهِر غرور جنرالات أغلبهم صار ثقيلًا في العقل و الفعل بتأثير السن و الترهل و الفودكا. ڤوروتينتيسڤ ليس لديه شك أن الألمان سيسحقون الجيوش الروسية في الحرب القادمة. جولاته في المعسكرات هي دائمًا لحظة الحقيقة. هناك، و هو ينظر الى المراهقين الذين أُخِذوا من قراهم في طول و عرض روسيا، يتصور أجسادهم راقدة على الصقيع و الدماء تسيل منها بعدما يصدر أحد جنرالات هيئة الأركان أمرًا بالتقدم او بالانسحاب. تلك الاجساد ستكون وقود الثورة القادمة. الثورة التي لن تبقي شيئًا مما كان او مما هو الآن. اما هؤلاء الذين يُنَظِرون لهذه الثورة، الذين يُسمونها حركة الشعب، هؤلاء اللذين يتصورون انفسهم مثقفون، من يستمع لهم في سهرات السبت في سان بيترسبورج، مغفلون، لا يدركون ما الذي يعنيه سقوط فكرة النظام و سيادة الفوضى. اما صباح الأحد، في حضرة أبوات الكنيسة، هذه اللحظات تمثُل قمة الجنون الذي يراه الآن. الكنيسة تتصور انها في جوهر الروح الروسية. تتصور انها باقية و إن سقط كل شيء. لكن هؤلاء الرجال الملتحون ذوي البطون الممتلئة لا يرون ان تلك المعاني – الجوهر، الروح – كلها بلا قيمة امام الموجات العاتية القادمة. و ما يثير غثيانه معرفته، من خلال تقارير أجهزة الأمن التي تصله في هيئة الأركان، ان الكثير من هؤلاء الوعاظ أبعد ما يكونوا في حياتهم اليومية عن الرفعة المفترضة في المعاني التي يتحدثون عنها. اما ما حوله في المدن و القرى و حتى الشوارع الداخلية في موسكو و سان بيترسبورج، أغلبه حزن و فقر و جهل، و تحتهم غضب. تحتهم حمم من نار تبحث عن مخارج لتصل الى السطح، لتنفجر و لتُفجِر ما كوَّن ذلك الغضب .. حتى هو – ڤوروتينتيسڤ – لا يفعل شيئًا و هو يرى تآكل النظام الاجتماعي و السياسي. على العكس، عندما لا يكون مشغولًا بكتابة التقارير و التحليلات التي يعلم انها غير ذات تأثير على فكر هيئة الأركان، يكون مأخوذًا برغبة في امرأة لا يجب الوصول لها.

ڤوروتينتيسڤ هو الشخصية المحورية في العمل الرئيس للكاتب الروسي الكساندر سولزينيتسين عن مرحلة ما قبل اندلاع الثورة الروسية بعد الحرب العالمية الأولى. كثيرون حاولوا تحليل المقصود من شخصية ڤوروتينتيسڤ: رؤية سولزينيتسين للفشل و الضعف في اهم جوانب النظام القيصري قبل الثورة، او تصوير المشاكل العميقة في روسيا تلك المرحلة و التي حكمت بالفشل على تجربة الثورة من قبل أن تبدأ، أو استخدامه لتلك الشخصية كتضاد للشخصيات التي خلقت النظام الشيوعي في روسيا، و أهمها لينين (و قد كتب سولزينيتسين عنه الكثير في نفس المجموعة الروائية)، أو تصويره للعجز عن مواجهة المشاكل حتى و إن أُدرِكت .. كل ذلك غالبًا صحيح. لكن الأهم في تصوري هو تصويره لحتمية السقوط في أي مجتمع يصل الى الإفلاس القيمي، يصل الى افلاس المعنى.

من خلال عيون و عقل ڤوروتينتيسڤ، سولزينيتسين يرينا ببطء – نحن القراء – ان أهم المراكز السياسية و الاقتصادية و الدينية في روسيا نهايات القرن التاسع عشر و بدايات القرن العشرين، كانت وصلت الى نهاية طرق. ربما الناظر بسرعة لما يجري على السطح يرى تقدم و حركة بناء و استثمار في البنية التحتية، يرى تطوير في نظم التعليم، يرى دخول الكهرباء و الراديو الى أماكن في غياهب الصقيع الروسي، يرى جيش ضخم منظم يبدو قادرًا على مواجهة امبراطوريات أوروبية، و يرى هيكل اجتماعي ثابت على أسس ملكية الأراضي الروسية و على الإيمان العميق بقناعات المسيحية الأرثوذكسية الروسية .. لكن عيون ڤوروتينتيسڤ تأخذنا الى ما تحت السطح. و عقله يشرح لنا ان مظاهر القوة و الثبات بالكاد تخفي الوهن الذي أكل الأسس. و المهم في فكر سولزينيتسين، ان الوهن ليس ضعف نظام سياسي، او تصور قوة في جيش لن يستطيع الوقوف امام جحافل الغضب التي ستجتاح روسيا، و ليس غباء و نفاق جزء واسع ممن يُسموا مثقفين، و ليس غفلة رجال الدين .. الوهن عند سولزينيتسين كامن في ضياع المعنى من الأفكار و المؤسسات و القيم التي شكلت المجتمع الروسي في تلك الفترة. و في فكر سولزينيتسين، حدوث ذلك مؤدي بالضرورة إلى سقوط. سولزينيتسين لا يعنيه كثيرًا إنهيار القيصرية الروسية، لأن ما وصلت اليه أوجب سقوطها. لكن الخطر الذي رآه، ان سقوط النظام في لحظة ضياع المعنى من الأفكار و المؤسسات التي شكلت الدولة، و في لحظة ضياع للقيم التي كونت وجدان المجتمع، مؤدي الى فوضى. و في الفوضى يبتعد الحكماء و ينزوي أهل القيم، و تبقى على الساحة الأصوات الأعلى، الأكثر صراخًا، الأكثر تعبيرًا عن الغضب، الأكثر تعبئة للشباب. و عندما يحدث ذلك، يمر المجتمع بتجربة قاسية، حزينة – دائمًا.