أحمد عرابي واحد من الشخصيات ذات المشاهد المحدودة جدًا في التاريخ المصري . الرجل يظهر امامنا قادمًا بمقدمات بسيطة ليتحدى الخديوي توفيق ، يقف امامه قائلًا قولته الشهيرة باننا ولدنا أحرارًا و لن نستعبد او نورث بعد اليوم – و تلك المرة الوحيدة طيلة القرن التاسع عشر التي يقف فيها مصري امام السلطان ليس طالبًا او متمنيًا عليه النظر في حقوق المصريين ، بل رافضًا و متحديًا .. و الحقيقة ان عرابي ذهب الى ما هو ابعد من ذلك ، فجمع علية القوم في مصر وقتها ، و منهم مجموعة من أهم كبارات المجتمع و العُمد في الدلتا و الصعيد ، وعدد من أهم شيوخ الأزهر و بطريرك الكنيسة المصرية و حاخام اليهود في مصر وقتها ، و الهدف واقعيًا كان عزل الخديوي .. و مع تطور المواجهة نرى المشهد الثاني لأحمد عرابي .. يقود الجيش المصري ليتحدى التهديد البريطاني و يحارب جيشه الى أن يُهزم .. و بعدها يختفي أحمد عرابي بسرعة مثلما ظهر بسرعة في التاريخ .

لكن تجول هادئ في ارشيفات التاريخ الحافظة لتفاصيل تلك المرحلة – و أهمها الملفات البريطانية خاصة في وزارة الخارجية – يظهر وجه أخر لأحمد عرابي .

الأرشيف البريطاني عن مرحلة التسعينات في القرن التاسع عشر يحوي رسائل متعددة من أحمد عرابي الى مسئولين بريطانيين و هي موجودة ليس لأهمية يوليها البريطانيون لعرابي ، و لكن لأن الرسائل و التعليقات عليها تأتي في مرحلة اهتمت فيها بريطانيا جدًا بإرث الدولة العثمانية ، و ذلك دعى الخارجية البريطانية ان تعطي أولوية كبيرة لتحليلات عن نقط رأتها محورية لفهم المشاعر العربية تجاه دولة الخلافة حينئذ .

ما يُلفت النظر هنا اننا نسمع صوت عرابي كمفكر و ناظر في المستقبل و ليس فقط كمحارب ضد طغيان و استعمار .

الواضح أن فكر عرابي مبني علي اطلاع معقول على عدد من تيارات الثقافة الغربية في أوائل و منتصف القرن التاسع عشر . و البادي ان اطلاعه تلاه تفكير ، فنحن نسمعه يمزج ما عرفه من بعض تلك التيارات برؤيته النابعة من خلفيته كفلاح مصري تكون عقله في دلتا النيل ثم ثقُل بالدراسة في الأزهر . و الرجل دائمًا يقدم اراءه بوضوح و بهدوء و هو ما دعا بعض الدبلوماسيين البريطانيين وقتها للتعليق ان الرجل يحمل داخله أكثر كثيرًا من الصورة التي ظهر بها اثناء تمرده على الخديوي .

و في هذا كان الدبلوماسيون البريطانيون بطيئي الادراك لأن الوثائق تظهر ان عرابي قد حاول عمل حوار جاد و واسع مع عدد من ممثلي الدول الغربية في مصر قبل مواجهته لبريطانيا ، و بعض تلك الحوارات ، حتى مع غير بريطانيين ، محفوظ في وثائق الخارجية البريطانية .

مراسلات الرجل و هو في منفاه في سريلانكا ، بعيدًا عن أجواء الخديوي و الحرب ، تُظهر صوتًا أعمق و أكثر حكمة من الصورة التي ظهرت و أختفت بسرعة في التاريخ .

عرابي لا يقدم صورة وردية لما يمكن ان يكون عليه حكم وطني ، لا هو غربي و لا هو تركي . الرجل واقعي في تصوراته عن ما يمكن من تنمية و أسلوب إدارة . كما ان الرجل متوازن و أحيانا برجماتي في تصوره لدور الدين في الدولة . و اللافت انه لا يرى ضرورة مواجهة بين اهداف حكم وطني و بين مصالح الدول الكبرى (و أهمها في ذلك الوقت بريطانيا) .

كلمات أحمد عرابي ذهبت ادراج الرياح ، فهو قبل و بعد كل ذلك رجل لم يكن لديه في ذلك الوقت ما يقدمه للامبراطورية البريطانية – و ان كان بعض ما قاله (و هو وقتها سجين منفى منذ سنين) دال على انه كان مستعدًا أن يقدم .. لكن المهم هنا انه بعد عشرات السنين تبقى كلمات عرابي كمحاور طريق فرعي صغير مهجور في التاريخ المصري . و لكنه طريق مؤدي لمعرفة ذات قيمة ، لأنها معرفة بفكر رجل مهم في ذلك التاريخ .