هناك مقولة شهيرة لأول سكرتير عام لحلف الناتو (شمال الاطلنطي) – و قد كان لورد إنجليزي - يقول فيها: ان الهدف الاستراتيجي للحلف هو إبقاء الروس out، الأمريكان in، و الألمان down.

النقطة الثالثة – حول ألمانيا – محط تفكير هذه الأيام في عدد من العواصم الغربية، ذلك، لأن هناك ثلاثة مستجدات تغذي توتر أوروبي حول ألمانيا.

المستجدات هي: الاحتمالية الكبرى لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مع تراجعات هيكلية في الاقتصاد الفرنسي، مع التغير الكبير في أسلوب التفكير الأمريكي حول أهدافها في أوروبا (و هذا التغير ظاهر بوضوح في أقوال و سياسات الرئيس دونالد ترمپ، و لكنه بدأ مع إدارة جورچ بوش الإبن و إزداد مع إدارة باراك أوباما، أي انه غالباً مستمر في المستقبل).

هذه المستجدات باعثة للقلق في عواصم اوروبية مختلفة، لأن تحتها – في الوجدان النفسي لاوروبا - هناك ثلاثة حساسيات هامة حول ألمانيا.

واحد: انه منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، كان الصعود الاقتصادي لألمانيا مُقيداً بثلاثة عوامل. واحد: قوة فرنسا السياسية داخل الاتحاد الأوروبي (و قد كانت المُنظِم الحقيقي لتطور و توسع الاتحاد). اثنين: وجود بريطانيا داخل الاتحاد ممثلة للقوة الأنجلوساكسونية (و هي أساس الفكر السياسي للولايات المتحدة – أي ان هناك مكابح قوية على أي صعود واضح لالمانيا). و ثلاثة: التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن أوروبا أمام الخطر السوڤيتي ثم من بعده الوجود الروسي على الأبواب الشرقية للقارة (و هذا الالتزام وضع أمريكا في قلب أوروبا). الآن تتراجع هذه العوامل في نفس الوقت. و ذلك يطرح سؤال ثاني، حول اتجاه السياسية الألمانية لأول مرة تخرج فيها قوتها من التحديدات المكابح التي كانت عليها لعقود.

ان ذلك البلد منذ توحيد الإمارات الألمانية المختلفة في دولة واحدة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر و حتى العقد الأول من القرن العشرين (أي مباشرة قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى) قد فشل في وضع قوته الاقتصادية المهولة في إطار سياسي قابل للاستمرار. بمعنى، ان التجربة الألمانية في إيجاد ليبرالية سياسية (في بدايات النصف الثاني من القرن التاسع عشر) قد فشلت. تجربة القيصرية الألمانية (تحت الإمبراطور ولهلم في نهايات القرن) فشلت. ثم التجربة النازية، و قد كان فشلها كارثة على الدولة و القارة. فقط التجربة الألمانية في العقود الستة الماضية نجحت…لكن ذلك النجاح كان، لفترة، تحت احتلال أمريكي و بريطاني مباشر…لفترة أخرى، تحت وجود عسكري أمريكي كبير (لا يزال مستمراً)…و لفترة أخرى كان داخل إطار الاتحاد الأوروبي (لكن في وجود فرنسي و بريطاني أقوى من ألمانيا سياسياً). و السؤال الآن، في ظل هذه التغيرات التي بدأ بها هذا المقال، ما هو الإطار السياسي القادم لألمانيا و القادر على استيعاب قوتها بدون زلزلة الأطر السياسية في أوروبا.

هذا السؤال يدعو الحساسية الثانية…و هي: انه في الكثير من العواصم الأوروبية هناك شعور دفين، أن أحد أهم مهام الاتحاد الأوروبي منذ نشأته كانت تقييد القوة الألمانية…لكن الآن، و في ظل تلك المتغيرات، فإن الألمانيا هي القائد الفعلي للاتحاد الأوروبي، و الأهم انه ليس هناك قائد او حتى مشارك أخر في القيادة في المستقبل المنظور.

الحساسية و السؤال الثالث هو حول نوعية الحكومات القادمة في ألمانيا. المشكلة ليست فقط في صعود أقصى اليمين الألماني. ذلك لأن الصورة هناك ليست مثيرة للخوف كما هي في دول أوروبية أخرى. لكن الواضح الآن أن سيطرة الحزبين الكبيرين (الديمقراطي المسيحي - و هو حزب هيلموت كول، المستشار الذي قاد توحيد ألمانيا، و حزب إنجيلا ميركل - و الحزب الاشتراكي) ليست قابلة للاستمرار. و الغالب، ان التحالفات الحكومية القادمة ستضم أحزاب أخرى، و من ثم ستكون اقل تماسكا، و غالباً اكثر عرضة للتأثر بشعبوبية أقصى اليمين.

هذه التغيرات و الحساسيات تطرح السؤال التقليدي في الفكر الأوروبي حول ألمانيا، بدون ان تقدم له حلول. هذا السؤال ما زال دائراً في غرف صنع قرار مغلقة، و بين عقلاء ينظرون للاتجاهات و للتاريخ بروية، و في وضع أوروبي عام ما زال سوي و محكوم بتوافقات السياسة الأوروبية في العقود السبعة الماضية. لكن تدفقات الشعبوية في اورربا و المخاوف الاقتصادية الظاهرة بوضوح في أغلب المجتمعات الأوروبية، قد يخلقا في المستقبل القريب ظروف يظهر فيها السؤال حول ألمانيا الى العلن، بوضوح، في وقت يكون فيه استعداد أوروبا – و ربما ألمانيا نفسها – للتعامل معه ضعيف. هذا السيناريو قد يعيد أوروبا لأجواء من القلق و التنافر لم تعرفها منذ عقود.