الأرض سوداء .. هكذا كانت منذ الأذل، لهذا سُميت بتلك السمة: ارض السواد المقدس. الأرض التي باركتها السماء فكانت، كما تصورها أهلها، منذ لحظة الخلق مرآة السماء على الأرض. تماثل ما هو هنا مع ما هو هناك. تماثل ما هو فوق مع ما هو تحت.

لكن في نهايات ديسمبر، الأرض شاربة البرودة. اقدام أهل هذه الأرض تشعر بالصقيع، ليس فقط في الجو، في الهواء، لكن أيضا في العمق، تحت التربة. السواد الذي يمزج الطمي القادم من افريقيا بالنور القادم من الشمس، في هذه الأيام يحمل داخلة برد .. و البرد لا يُولِد الزرع.

تتضرع القلوب و العيون و الأيادي الى السماء .. يشعرون ان الغياب قد طال، لكنه لم يطل، و هم يعرفون مواقيت الغياب و العودة .. هم يعرفون دورة الارتفاع، الهبوط، الموت، ثم الولادة من جديد.

و قد آن الظهور .. شهور الشتاء الطويلة انتصفت. ما زال للصقيع وقت على الأرض المباركة. لكن غياب الشمس على وشك الانتهاء. أهل الأرض يعرفون أن دورة السماء تقترب من الأيام المقدسة. الإله الذي يبث منذ شهور نور ضعيف، الذي منذ شهور يبعث أقل القليل من الدفئ الذي بالكاد يبقي الحياة في ارضه، يدنو من لحظة دخوله في الغياهب، يدنو من لحظة موته. هم يعرفون ان الموت لن يطول. عيونهم تترقب النجمة العذراء التي فيها وُلِد ملك السماء. تترقب النجم الذي سيظهر في الشرق، و مع ظهوره، تأتي الحياة، يأتي البعث من بعد موت .. يعود ابن الإله، الإله هو في ذاته، رع، يعود في خلق جديد.

عودته تأتي بعد ثلاث ليال من الموت … ليال ٢١ و ٢٢ و ٢٣ ديسمبر، أطول ليال السنة، حيث النهار قصير، باهت .. حيث رع قابع في غياهبه، قابع في موته .. لكن أهل الأرض المقدسة يفتحون عيونهن يوم ٢٥ ديسمبر عارفين، بعلم أرضهم التي استوعبت و فهمت، أن ليلة ٢٤ ديسمبر كانت ليلة العودة بعد ليال ثلاثة من سيادة الليل، ليال ثلاثة قضاها الاله في القبر. ٢٥ ديسمبر يأتي فتولد الشمس من جديد، تعود ساعات النهار لتطول، يعود النهار لينمو .. الدفئ يبدأ في الحلول في الأرض المقدسة بسوادها منذ الأزل. انها ليلة الولادة، عودة رع الى الحياة.

و مع عودة ساعات النهار الى الزيادة و مع انكماش الليل، يعود الزرع الى النمو، تعود الحياة، في روية المصريين، بعودة الإله الى الحياة الأرضية .. فالحياة و الكون، في فكرهم، انبعاثات الإله .. الكل من الواحد، الواحد في الكل …لكن للعارفين، للعودة من الموت، لخروج الإله من قبره بعد ثلاثة ليال من الغياب، معنى أخر .. انه احياء الوعي بعد ان قبع في موت طويل .. او كما نفهم من أفكار الكتاب المصريون، انه في رؤيتهم، احياء الوعي الشخصي ليرتبط بالوعي الأشمل، الذي هو كينونة الحياة، الذي هو انبعاث لخالق الكون، الذي هو خلق و وجود الكون.. ذلك الخلق الذي يتمثل هنا في التصور المصري القديم بعدسة النور، بمنارة الحياة: الشمس. و مع هذا الارتباط بين الوعي الشخصي و الكوني، تكمن فكرة أعمق قدمها المصريون القدماء، ثَم أخذها منهم كثيرون بعد ذلك: ان الوعي الشخصي القابع في غياهب اللا إدراك أيضا قابل لإعادة الإحياء .. قابل لأن يولد من جديد.

لذلك أحتفل المصريون القدماء بتلك الأيام التي نعيشها الآن .. للبعض كانت هذه الأيام تحمل عودة النور الذي هو مصدر الحياة .. للبعض كان المعنى اكبر .. لهولاء القلة، كان ذلك المعنى في عمق فكر و تصور الحضارة المصرية القديمة للكون و للاحتمالات المذهلة للإنسان.