البحث في الموجود بالتجربة، أكثر من بالفكر (راجع الحلقة السابقة) جاء بالدرجة الأولى من زاوية الأمن: تأمين الثورة - و المقصود هو تثبيت نتائج الحركة التي قام بها الجيش و رد أي محاولات لإجهاض ما ترتب عليها. وقتها كانت النظرة الأمنية مركزة بشكل رئيسي على الداخل، أي على الأعداء المحتملين من هيكل الاقتصاد السياسي الذي ضربته الحركة، و ليس على الخارج، أي الدول التي (غالباً) كانت سترى في تلك الحركة عدو محتمل.

و قد كان ذلك منطقيًا. لأن الحركة كانت بكل وضوح ضد اشخاص و مجموعات و مصالح داخل ذلك الاقتصاد السياسي، بينما مواقفها من الخارج، و مواقف الخارج منها كانت (وقتها) محتملة. لذا فإن مسؤلو الأمن حول جمال عبد الناصر ركزوا على الجهات و المجموعات التي رأوا فيها احتماليات خطرحاضر و ليس محتمل.

محكمة الثورة كانت الخطوة الأوضح ضد هيكل الاقتصاد السياسي الذي ضربته حركة الجيش. لكن سلمية تلك الحركة، و تحولها بسرعة شديدة الى تعبير عن رغبات قطاعات واسعة من الناس للتغيير السياسي و الاجتماعي، و من ثم تحولها الى ثورة، جعل من المحكمة و احكامها إبعاد لاشخاص، اكثر منها تصفية لطبقة.

الخطوة الأخرى الأقل وضوحا و لكن الأكثر تأثيراً، كانت حل الأحزاب السياسية. تلك الخطوة قضت على أي طريق سلمي كان يمكن لمجموعات سياسية من الفترة الملكية ان تسلكه للعوده للسياسة، و إن بأسلوب و خطاب مختلفين. هذه الخطوة ايضاً أحدثت فجوة بين الثراء الاقتصادي و المالي و بين النفوذ السياسي، و قد كان المزج بين الاثنين السمة الأهم للعقد الأخير من الحياة السياسية في مصر قبل يوليو ١٩٥٢.

لكن في وسط تلك الخطوات، بدا امام الضباط الذين جاءوا للسلطة، ان هناك عدد من الأشخاص و الدوائر ذات النفوذ القديم (في النظام السابق)، او التي كانت تدور في هيكل اقتصاده السياسي، التي يمكن الاستفادة منها، سواء في تأمين الثورة من اعداءها، او بشكل أوسع في البحث عن أفكار و طرق. و لعل القرب بين بعض تلك الدوائر و بين مجموعات ضباط ظهروا حول جمال عبد الناصر في تلك الفترة، بدا غريباً، او ليس أكثر من مظاهر ترف، خاصة و أن المجتمع المخملي المصري وقتها كان ما زال يستحق ذلك الوصف و له من سمات الجمال و الرقي و الاتصال بمدن التحضر و النور و الثقافة في أوروبا، ما هو كثير و مغري.

و عليه، ظهرت احتماليات تلاقي بين تداعيات الأمن عند النظام الجديد مع احتياجات الحفاظ على الثروة عند دوائر في النظام القديم، مع طموحات مجموعات دارت في الاقتصاد السياسي لذلك النظام القديم و ارادت دور في النظام الجديد. و بالفعل، وقتها – في منتصف الخمسينات – أدى التلاقي الى وصول النظام الجديد الى معلومات هامة، و الى فهم خفايا كانت في سراديب هيكل الاقتصاد السياسي للنظام السابق.

لكن الأهم كان ان تفتحت عيون الضباط الشباب وقتها على ان هناك من هم في داخل تلك الطبقة (من النظام القديم) و من هم في اقتصادها السياسي، ممن لديهم من العلم و المعرفة و التجربة و الاتصالات و الفهم للعالم، ما يمكن ان يقدموه، ليس فقط من أجل تأمين الثورة، و لكن من أجل فكرة التنمية (و قد كانت كما تحدثنا في هذه السلسلة من قبل، الهدف الثاني بعد التحرر).

لكن ادراك هذه النقطة أدى الى اختلافات في الرؤى داخل مجموعات الضباط الذين صعدوا الى مراكز القرار في مصر وقتها.

في مقابل من رأوا فائدة في اشخاص في تلك الدوائر، كانت هناك مجموعات نظرت بشك و قلق الى القرب البادي بين بعض زملائهم و بين تلك الدوائر من النظام القديم. و ذلك يُمكن فهمه من مفهوم النقاء الايدولوجي كما من مفهوم القلق من ولاء تلك الدوائر. و مع هذا و ذاك، كان هناك عامل انساني (او نفسي)، و هو إحساس البعض بالتفوق الفكري و الثقافي – و ليس فقط الارتفاع الطبقي - للبعض الأخر، و ذلك شعور قاسي يغلق العقول و يجعلها مستعدة للتضحية بالكفاءة (حتى و إن افتقدتها) من أجل ما هي معتادة عليه.

و الذي كان، ان غلُبَ شك المجموعات التي قلقت، و قد عُبِر عن ذلك من خلال المفهوم الذي ساد في الستينات و هو الاعتماد على “أهل الثقة” أكثر كثيراً من “أهل الخبرة”.

و كانت النتيجة النهائية لتنحية الجزء الأكبر من أهل الخبرة و العلم و الاطلاع (خاصة على الفكر المتطور)، مع غلق طرق الممارسة السياسية (بعد حل الأحزاب)، هي حرمان مصر (و الثورة) من مجموعات من أفضل العقول، في اللحظة التي بدأت فيها الثورة (و مصر) البحث عن التحرر و العمل من أجل نوع جديد من التطور.