إمانويل ماكرون في موقف صعب .. الرجل الذي أصبح رئيس فرنسا و هو بعد في بدايات الأربعينات، أثار أحلام كبيرة، عن قصد .. لكن كل تلك الإحلام ما زالت بعيدة عن التحقق. وفرنسا و ورائها أوروبا و حلفاء أخرون يريدون نتائج الآن و ليس غداً ..كما ان غداً سيحمل معه انتخابات رئاسية فرنسية سيواجه فيها الرجل مرشحة أقصى اليمين الفرنسي، ماري لوبان، و قد إزدادت خبرة و ثقلاً سياسيا.

هناك حلم فرنسي. ذلك البلد الجميل الراقي، قبع لأكثر من عقد من الزمان تحت إداراتين رئاسيتين – ساركوزي و هولاند - تصورتا انهما يحكما دولة ما زالت عظمى، سواءاً من ناحية الموارد أو من ناحية القدرات، في الداخل و الخارج. ذلك التصور أدى بالإدارتين الى إدخال فرنسا في ملفات خارجية فرضت عليها تكاليف، و في ذات الوقت، التهرب من إصلاحات إقتصادية كان واضحاً لعدد من السنوات أنها ضرورية. و المشكلة أن في قلب ذلك الإمتداد الخارجي و التغافي الداخلي، كان هناك سرد قديم يُكرِر تصورات تجاوزها الزمن، خاصة عن محورية دور فرنسا في العديد من أنحاء العالم و عن قدرتها على الإستمرار في إسلوب حياتها التقليدي في الداخل. لكن الواقع لا يسير على هوى السرد السياسي. و لعله مؤكد أن النجاح المدوي لماكرون في الوصول الى قصر الإليزيه (مقر الرئاسة الفرنسية) قام بشكل رئيسي على حالة الغضب التي إجتاحت فرنسا في العقد الماضي من سياسات نبعت من ذلك الفكر و السرد.

ماكرون قدم نفسه، عن حق، على انه إبن المؤسسات الحاكمة في فرنسا، مثل مدرسة الإدارة العليا و الهيكل الإداري للدولة (خاصة وزارة الخزانة ذات النفوذ المهول). الرجل أيضاً قدم نفسه على أنه خارجًا من عباءة مجموعة من أهم دور المال و الأعمال الفرنسية. كما انه قدم نفسه كممثلا لدوائر ثقافية مهمة و ذات نجوم مجتمع، كانت لسنوات ذات صوت عالي رافض النهج الفرنسي خارجياً و داخلياً. و مع كل ذلك، ماكرون قدم نفسه، عن حق، كحلقة وصل بين جيل الكبارالمتحكمين في مفاصل الدولة، و بين جيل من الشباب يرى أن المستقبل يحمل هموم إقتصادية سيرثها هو و ليس جيل الأباء.

خارجياً، ماكرون سار على خط ذكي. الرجل لم يشهر سيوفا تحت وهج الشمس لمحاربة قوى شر أو طواحين هواء. ماكرون وضع دور فرنسا في ملفات دولية مختلفة على أساس خبراتها، معرفتها بمناطق و دول معينة، قوتها الناعمة خاصة في دنيا الثقافة، و على أساس ما تصور هو انها قدراته على الإقناع. و قد كان في قلب فكر ماكرون عن دور فرنسا في الخارج ادراكه أن الخارج (و بالذات أوروبا) يبحث عن فرنسا التي يُقدِم. ذلك أنه صحيحًا أن تجربة القيادة الألمانية لأوروبا خلال سنوات التراجع الإقتصادي في العقد الماضي بعد الإنهيار المالي في ٢٠٠٨ قد أنقذت دول مختلفة من القارة، و لكنها تركت في أفواه كثيرة إحساس بمرارة الدواء الألماني. كما أن عدد من ذوي الشعر الأبيض في المكاتب العليا في الإتحاد الأوروبي قد أحسوا أن المشروع الأوروبي لا يمكن أن يستمر بقوة الموتور الألماني وحده، و أن الرونق الفرنسي، ليس فقط مطلوبا و لكنه ضروريا، خاصة و أن ألمانيا ذات الصوت الهادئ الرزين تحت المستشارة إنجيلا ميركل الى زوال منتظرة ألمانيا أخرى تحت مستشار (و إدارة) جديدة. و الكثيرون من هؤلاء المفكرين داخل الإتحاد الأوروبي لا يريدون مستقبل قيادة المشروع الأوروبي تحت رحمة عنصر واحد ما زال في المجهول.

حتى أمريكا، تحت باراك أوباما و دونالد ترامب، كانت في انتظار وهج فرنسي. ليس فقط بسبب ذلك الإعجاب الأمريكي القديم جداً بالفكر و الثقافة الفرنسيين. و لكن لأن تلك العلاقة بدت طيلة ذلك العقد الماضي من الزمن دائرة في حلقات تضيع فيها طاقات كبيرة و لكن بلا نتائج واضحة. فلا فرنسا حليف يُمكن لأمريكا توكيله في ملفات معينة، و لا هي قادرة على حل مشاكل بحيث لا تصل أصدائها الى البيت الأبيض أصلا. و لذلك، فقد كان هناك كثيرون في واشنطن و نيويورك على أمل في فرنسا جديدة، ليس فقط أكثر قربًا من الأولويات الأمريكية و لكن أيضا أكثر نشاطًا في حل مشاكل ترى أمريكا أن فرنسا يمكنها لعب أدوار مفيدة فيها.

كل تلك الأهداف ما زالت مفتوحة، و كل تلك الأحلام ما زالت في الأفق. لكن الوقت يمر بماكرون، و مع مرور الوقت يفقد الشاب شيئا وراء شيئًا من بريقه. و لعل القلق في دوائر السياسة و المال الذي يشعر به زوار باريس معبراً عن إحساس بأن أهداف مهمة ظاهرة و أن الكثير منها قابل للتحقيق، و أن الطاقة اللازمة للعمل موجودة و أن خيوط كثيرة منثورة. لكن مع ذلك، أن سيد الاليزيه لم يستطع بعد أن يجمع تلك الخيوط في نسيج واضح يكون بداية ثوب جديد لتلك السيدة الجميلة التي تنتظره.