اختلفت الروايات، لكن الغالب ان رصاصة واحدة كانت القاتلة. سقط الميت من على كرسيه، و في لحظات، بقفزتين، كان القاتل على خشبة المسرح ينظر بعينين هائجتين الى الجمهور و هو يصرخ: هكذا دائما مصير كل ديكتاتور. التداعيات السياسية لاغتيال الرئيس الأمريكي ابراهام لينكولن استمرت لعقود، خاصة و ان الاغتيال جاء مباشرة بعد انتهاء الحرب الأهلية الامريكية و القضاء – قانونًا على الأقل – على العبودية في الولايات الجنوبية.

اغتيال لينكولن كان لحظة فاصلة في الوعي الأمريكي. ليس فقط لان الرجل جسد أفكار جوهرية في المشروع الأمريكي، و لكن أيضا لان تغييب الرجل أفسح المجال أمام الولايات المتحدة أن تبدأ صفحة جديدة بعد الحرب بدون أن يكون هناك رجل وجوده يُذكِر الملايين من ملاك الأراضي في الولايات الجنوبية بأنهم قد هُزِموا في حرب و أن اقتصاد سياسي رفضوه قد فُرِض عليهم.

قتل لينكولن في مسرح، و قفزة قاتله الى خشبة ذلك المسرح ليطلق حكمه على القتيل عبر عن الدراما في مشروع لينكولن و في التداعيات التي أعقبته. و ربما الأهم، عبر عن التناقضات في الأفكار و الرؤى الاجتماعية و التصورات للمستقبل التي كانت – و لا زالت – قابعة في الأركان المختلفة للمجتمع الأمريكي. الولايات المتحدة، و خاصة الطبقة الحاكمة فيها، لم تكن تريد المزيد من المواجهات، من الصراعات، و من الحروب. طوي صفحة الماضي و بدء مرحلة جديدة استدعا بالضرورة عدم الخوض في الماضي. لكن قوة الدراما كان لابد لها من قناة تأخذها من أعماق الوعي الجمعي للمجتمع الأمريكي الى السطح. و اذا كانت السياسة غير قادرة، فإن الفن، و المسرح بالذات، كان قادرا.

ليس غريبًا إذن ان نرى الربع الأخير من القرن التاسع عشر ذاخرا بمسرحيات عدة عن صراعات الرجل الأبيض و هو يتقدم الى الغرب الأمريكي أخذاً الأرض و غالبًا قاتلًا الهندي الأحمر الذي كان على الأرض. و أيضا ليس غريبًا ان نرى في تلك الفترة و مع بدايات القرن العشرين، الكثير من الأعمال المسرحية عن تجارب محاربي الولايات الجنوبية، المهزومين في الحرب الأهلية، الذين عادوا الى بيوتهم و مزارعهم و هم بعد في العشرينيات و الثلاثينات من العمر، ليعيشوا بعد ذلك في مجتمع أخذ يتغير امام عيونهم و أغلبهم لم يملك القدرة على وقف التغيير الذي يرفضه و الذي حارب لمنعه.

هناك الكثير من القتل في هذه المسرحيات. قتل جسدي، دماء تسيل، و قتل روحي، حيث الكثير من الإحباطات الداخلية تخرج من العقل و القلب و تأخذ أشكال تجبر على الأخريين. و لعل التيمة (theme) المتكررة في الكثير من تلك المسرحيات هي التناقض بين الهدوء و الهارمونية الذان يفرضهما جلال الطبيعة في الجنوب و الغرب الأمريكيين (جبال و وديان كبرى و صحاري و آفاق تأخذ العيون الى ما لا نهاية) و بين ثورات الإحباط في نفوس الكثيرين ممن وجدوا أنفسهم على تلك الأرض في ذلك الوقت الذي شهد نقلات كبرى في الحياة الاجتماعية لأمريكا.

الرصاصة القاتلة استمرت في لعب دور هام في الوجدان الأمريكي. الكثير من الأعمال المسرحية التي ساهمت في تطوير الوعي الجمعي في بدايات القرن العشرين – ثم بعد ذلك، الدور الذي لعبته السينما الأمريكي – كان فيها مشهد الرجل الممتطي حصانه، الضارب في وِسع الطبيعة في الجنوب و الغرب الأمريكيين، الممتلئ شجنًا بصراع داخلي بين ماضي فيه أخطاء كبرى و خطايا، و بين مستقبل يتصوره ماحيا للأخطاء، مُذهِبا للخطايا، و واعدا بالهدوء و الراحة. لكن، و مع كل الهروب نحو المجهول – نحو الغرب و الجنوب، حيث الطبيعة (و المستقبل) يبدوا بلا نهاية – يأتي مشهد الرصاصة الخارجة من سلاح الرجل، القاتلة للعقبة التي يتصورها في طريقه نحو هذا الهدف، نحو هذا السلام الذي يرتجي.

تلك الرصاصات انهت صراعات و أذابت حواجز و فتحت طرق لاستمرار تدفق المشروع الأمريكي. لكن السؤال الذي بدأته الدراما الامريكية، خاصة في مسرحيات شرَحْت التجربة الامريكية بذكاء، هو ما اذا كانت تلك الرصاصات قد هدأت النفوس و جعلتها أكثر توائما مع الطبيعة ذات الجلال التي تحتضن الولايات المتحدة. أم أن ذلك القتل قد باعد أكثر فأكثر بين القلق الكامن في وعي المجتمع و بين الجلال و الروعة في الأرض التي عليها بدأت التجربة.

السؤال لا يزال معنا الى اليوم. و المسرح الأمريكي لا يزال يطرحه. في ٢٠١٧ واحدة من أكثر المسرحيات نجاحًا في نيويورك كانت عن دراما سياسية بها زعيم شديد الشبه بدونالد ترامب (موضوعا و شكلا)، و الصراعات التي مثلها صعوده الى قمة السلطة، و تصور البعض له كتجسيد لافكار رئيسية في المجتمع الأمريكي، و رؤية أخرين له (و لما يمثله) كعقبة امام تدفق المشروع الأمريكي. و هنا أيضا في تلك المسرحية، كانت الطريقة لإنهاء الصراع، رصاصة قاتلة.