أمريكا تبتعد عن منطقتنا .. و هذا يزعج كثيرون و يفرح أخرون .. للبعض ، ذلك انتصار ، و لأخرين ذلك خطر .. ذلك الابتعاد ايضًا في قلب التقاربات الجديدة التي بدأت تظهر في المنطقة و أهمها بين بعض دول الخليج و إسرائيل . كما أن ذلك الابتعاد وراء الفجوات الاستراتيجية التي دخلت منها دول أخرى (مثل تركيا) و كونت مناطق نفوذ في أجزاء من الساحل الشرقي للبحر المتوسط ، و مثل روسيا التي وسعت من نفوذ كان موجودًا في مناطق من شمال افريقيا .. و ربما الأهم ان ذلك الابتعاد يفتح نظر مفكري الاستراتيجية الصينية على مايمكن عمله في كل المنطقة العربية – و هي واحدة من مناطق قليلة جدًا في العالم ما زال الوجود الصيني فيها محدود للغاية .

الصورة مختلفة في واشنطن . هناك ، الابتعاد نتيجة لفكر طويل داخل أهم مؤسسات القرار الأمريكي ، و قد التقى الفكر مع استعداد سياسي داخل الحزبين الرئيسيين للخروج التدريجي من الشرق الأوسط ، خاصة مع نقل الاهتمام و مع نقل قدرات عسكرية كبرى الى شرق آسيا حيث اهم مسارح الصراع مع الصين .. بالطبع الخروج لا يعني الابتعاد النهائي ، لأن للولايات المتحدة علاقة أستراتيجية رئيسية في الشرق الأوسط (مع إسرائيل) و علاقات أخرى عميقة مع عدد من الدول العربية . و في النظرة الأمريكية ، هذه العلاقات – و التي يستمر الاستثمار فيها – تعني ان هذه الدول يمكن إيكال مهام لها عند وجود مصالح أمريكية تستدعي القيام بمهام معينة .

لقد تحدثت منذ أسابيع قليلة في هذا العمود عن حوارات مختلفة أمريكية عنا ، و نحن فيها مصورين و كأننا منطقة ذات قدرات محدودة جدًا للفعل – و هذا صحيح في بعض النقاط و خاطئ في الكثير . و لكنه بشكل عام معبِر عن رؤية معينة في واشنطن لقدرة الفعل لأغلب الدول العربية . لكن حديث اليوم مختلف – و هو عن سؤال يُطرح في عدد من الدوائر الأمريكية الآن متعلق بنوعية المصالح الأمريكية لدينا .

هذا الحديث لا يدخل كثيرًا في البترول و الغاز لان مستقبل الطاقة بدأ يظهر بوضوح من ناحية تطور و صعود الطاقات البديلة (النمو الأخضر ، كما يُسمى) . و بالرغم من ان منطقتنا – خاصة شمال افريقيا – متوقع لها ان تكون ذات أهمية خاصة في هذا المستقبل ، خاصة كمصدر هام للطاقة الشمسية لاوروبا – و ايضًا بالرغم من استثمارات خليجية عملاقة في أنواع مختلفة من الطاقة البديلة - الا ان مقدرات التكنولوجيا وراء هذه الطاقات الجديدة بعيدة عن منطقتنا . معنى ذلك اننا لاعب غالبا سيستفيد من هذا التحول التكنولوجي المهول في دنيا الطاقة ، لكننا لا نحمل في ذلك المستقبل للطاقة أهمية استراتيجية خاصة ، كتلك التي كانت لمنطقة الخليج اثناء فترة البترول و الغاز كأول مصادر الطاقة في العالم .

مشاكل الهجرة ايضًا بعيدة عن الفكر الاستراتيجي الأمريكي لانه بالرغم من وجود سيناريوهات مظلمة لعدد من الدول العربية ، و التي ، إن حدثت ، ستؤدي الى موجات هجرة جديدة – ليست على مستوى موجات الهجرة من سوريا في العقد الماضي و لكن ايضًا بوزن لا يستهان به - الا ان موجات الهجرة تلك (إن حدثت) ستكون مشكلة أوروبية بامتياز . و التقدير الأمريكي انها ستؤدي الى مشكلات اجتماعية داخل أوروبا ، و ربما الى تطورات سياسية داخل عدد من دول أوروبا (مثل ازدياد في التمثيل البرلماني لاحزاب أقصى اليمين) الا انها ليست واصلة في تداعياتها الى ما يستدعي تدخلًا أمريكيًا . على العكس هناك رؤية أمريكية ترى ان هذا الخطر سيؤدي الى تحريك هياكل الدفاع الأوروبية و هي ، في الرؤية الأمريكية ، هياكل فيها الكثير من القصور .

نفس الشئ الى حدٍ ما ينطبق على المشاكل النابعة من حركات الإسلام السياسي المسلح . فهي بالرغم من تطورات مهمة في اغلبها – سواء العاملة في الشرق الأوسط او في وسط آسيا او في غرب افريقيا – كلها لا تمثل في الرأي الأمريكي السائد في أهم مؤسسات القرار (على الأقل فيما هو ظاهر) تهديد جاد يستدعي تدخل أمريكي . على عكس ، هذا واحد من الملفات التي يُرى سهولة تحويلها الى حلفاء و أصدقاء ، سواء في المنطقة العربية او في أوروبا .

بالطبع نتيجة كل ما سبق ، فإن الدفاع عن حلفاء قدماء من بعض العائلات المالكة العربية أصبح ايضًا أقل أهمية في هذه الرأي الأمريكي .

الحاصل حتى الآن ان الابتعاد الأمريكي عن منطقتنا يجري ببطء و لكن بوضوح . لكنه ابتعاد و ليس رحيل . خاصة ان الشرق الأوسط و المنطقة العربية ما زالا يحتويان على عنصرين مهمين لمستقبل الإنسانية . العنصر الأول ان في المنطقة واحدة من أكبر الكتل الشبابية في العالم ، و هذه طاقة ممكن ان تؤدي الى قفزات اقتصادية (كما حدث في عدد من الدول الآسيوية) او ممكن ان تذهب بعدد من الدول الى انفجارات .. العنصر الثاني هو مستقبل دور الدين – و خاصة الإسلام – في مجتمعات منطقتنا ، و تلك نقطة شديدة الأهمية اجتماعيًا و سياسيًا ، و تُراقب عن قرب سواء من الغرب او الشرق .

مع هذين العنصرين هناك سؤال أخر عن إمكانية ان يلعب الشرق الأوسط دور ما في الصراع القادم بين الولايات المتحدة الامريكية و الصين .

هذه العناصر طائرة في أجواء التفكير الاستراتيجي عن منطقتنا . لكنها لا تجاوب عن ذلك السؤال الجديد ، عن ما الذي تريده امريكا من العالم العربي في المستقبل المنظور . حتى الآن امريكا لا تعرف بالضبط .