الفكرة الحاكمة في بداية حكم عبد الناصر كانت انها لحظة تاريخية .. و الحقيقة انه بغض النظر عن النتائج، فان ذلك كان صحيحاً، ربما بأكثر مما تصور صانعو هذه اللحظة التاريخية.

حركة الجيش تحت قيادة الضباط الأحرار انهت حكم الملك فاروق. لكن التغير الأوسع هنا كان انهاء حكم أسرة محمد علي.

هذه الأسرة كانت قد وصلت في الأربعينات من القرن العشرين الى نقطة تكررت كثيراً في تاريخ الأسر الحاكمة: لحظة تتركز فيها الشرعية و يستقر فيها الحكم لحلقة ضعيفة من الأسرة، تجعل الحلقات القوية حانقة و أحيانا متمردة، و تؤدي بالعقول النيرة في الأسرة الى الابتعاد. و قد كان ذلك ما حدث بالضبط مع ترسخ الحكم للملك فؤاد ثم وصوله لفاروق و هو لم يكمل بعد عامه الخامس عشر.

و بعيداً عن فاروق كانسان و عن عواصف الحزن و الألم التي طاحت في حياته، فإن فترة حكمة (بعد فترة حكم ابيه) نخرت في أسس شرعية و قوة وجود أسرة محمد علي على قمة الحياة في مصر.

لكن النقطة الهامة هنا هي ان حكم اسرة محمد علي كان الإطار الذي تكونت داخله كل مقومات الدولة المصرية الحديثة.

أولا كان هناك مشروع الخروج من إطار الإمبراطورية العثمانية (و الذي و إن كان قد فشل، الى انه وصل الى نقطة متقدمة جعلت من مصر طيلة القرن التاسع عشر و الى سقوط تلك الإمبراطورية في بدايات القرن العشرين، دولة بعيدة جداً عن النفوذ المباشر لاسطنبول).

ثانياً، كانت هناك التغيُرات السياسية التي قام بها محمد على باشا، و التي انهت سلطة المماليك و قللت بشكل حاسم النفوذ السياسي للهيئات الدينية. و الأهم، خلقت مركزية في الدولة المصرية، كانت مفقودة لثلاثة قرون على الأقل قبل ذلك.

ثالثاً، كان هناك مشروع التطور و الذي وضعه محمد على باشا على أساس الإقرار بتقدم الغرب و الحاجه الى التعلم منه و الأخذ باسبابه، و قد كان ذلك وقتها ثورة فكرية على أُطر دينية و اجتماعية مترسخة في المجتمع.

رابعاً، كان هناك مشروع امبراطورية مصرية على طول الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، قاده ابن محمد علي: إبراهيم باشا، و هو مشروع و إن قد فشل بعد عقد من النجاح (و كان فشله بعد تدخل بريطاني مباشر ضده)، الى انه حدد معالم التوسع الاستراتيجي (فكراً و نفوذا) للدولة المصرية الحديثة.

خامساً، كان هناك التطور العمراني و الجمالي في عصر إسماعيل باشا (حفيد محمد علي)، و كان ذلك التطور هو الرداء الجميل الذي كسى جَسَد الدولة بعد أن تطورت تجربتها.

سادسا، كانت هناك محاولات – ليست من داخل أسرة محمد علي، و لكن من دوائر أحاطت بها – لوصل حكم الأسرة و مشروعاتها بالشعب المصري. ذلك ان كل مشروعات محمد علي و إبراهيم و إسماعيل كانت شخصية او للأسرة، ناظرة لمصر على انها ارض خصبة و ثرية، تم السيطرة عليها، و أصبحت قاعدة لمشروع تلك العائلة للحكم و للنفوذ و للثراء. لكن ما حاولته تلك الدوائر التي أحاطت بالعائلة في بدايات القرن العشرين، هو ان توطد الصلة بين حكم العائلة و بين تراث الشعب المصري. و لم يكن ذلك صعباً، لأنه بعد قرن من الزمان (منذ بداية حكم هذه العائلة في أوائل القرن التاسع عشر)، كان أن نُسِجت الكثير من الصلات بين العائلة الحاكمة و بين الأرض التي حكمتها و الناس الذين تحكموا فيهم.

مع كل ذلك، كانت اللحظة الدولية حول تلك المشروعات و التجارب للاسرة، هامة و في قرن ( من بدايات التاسع عشر الى بدايات العشرين) يُوصف، بحق، انه قرن الثورات الكبرى (و المقصود الثورات العلمية و الفكرية) – تغيرت فيه معالم اوروبا بعد المشروع النابليوني و حروبه، ظهر فيه العالم الجديد (أمريكا الشمالية و الجنوبية) كقوة اجتماعية و إقتصادية مهولة، ترنحت ثم سقطت كل عروش أوروبا الكبرى باستثناء العرش البريطاني، تغير فيه مفهوم الحرب بشكل جذري، ظهرت تكنولوجيات غيرت شكل الحياة، و ايضاً ظهرت ايديولوجيات الهبت فِكْر العالم. و الحاصل ان مكونات الدولة المصرية الحديثة التي تشكلت في ذلك القرن كانت نتائج هذه المشروعات و المحاولات و التجارب لأسرة محمد علي، و في ظل هذه التغيُرات الكبرى في العالم.

معنى هذا، ان انهاء حكم أسرة محمد علي استدعى معه البحث في تلك المكونات للدولة، لانها ارتبطت باسرة محمد علي، ليس فقط بالفكر و التجربة و لكن أيضا بالتنفيذ و الادوات.

لكن هذا البحث لم يحدث. على الأقل لا يوجد لدينا ما يدُل على ان صانعو اللحظة التاريخية في أوائل الخمسينات في مصر توقفوا ليراجعوا ما كان ماثل امامهم من مكونات الدولة التي استولوا عليها بعد أن اسقطوا حكم أسرة محمد علي. الذي حدث في الواقع، ان جوهر مشروع جمال عبد الناصر – التحرر و التقدم (راجع الحلقة السابقة) - أستدعى نوع من البحث في ما كان موجود امام هذا المشروع، و لكن البحث كان بالتجربة و ليس بالفكر.. و كانت التجربة حافلة بما تم تطويره و حزينة بقيمة ما ضاع.