فترة الاجازات فرصة لقراءات بعيدة عن العمل. و هذه السنة وقعت في يدي المخطوطة الكاملة لكل كتابات ليوناردو داڤنشي التي وصلتنا.

نقطة (التي وصلتنا) مهمة، لأن الرجل كان دائم التنقل، مقيماً ليس فقط في المدن الإيطالية الكبرى في عصر النهضة (روما، ميلانو، و فلورنسا)، و لكن ايضاً في فرنسا، و أماكن أخرى أخذته اليها اسفار كثيرة (بما في ذلك انباء عن تعاملات للرجل مع الدولة المملوكية في مصر و الشام وقتها). و لا شك ان الكثير ضاع، او ما زال محفوظ في مجموعات خاصة.

جمال مخطوطة كتلك انها مجموعات من الأفكار المتناثرة حول موضوعات مختلفة، كُتِبت في أوقات و مواقف مختلفة في حياة ذلك العقل الموسوعي عظيم الإبداع.

ليس هناك تسلسل للافكار. كما ان الكتابات ليست موجهة لنوع واحد من القراء. فهناك مراسلات ليوناردو داڤنشي مع أمراء مدن إيطالية مختلفة. هناك رسائل عائلية و لأصدقاء. هناك رسائل لمعاونين له. و هناك أجزاء واضح انها كُتِبت لطلبة علم – و هذا منطقي حيث ان ليوناردو كان على اتصال مع أهم استديوهات و ورش العمل الإبداعي في إيطاليا و فرنسا في فترة حياته. و وقتها العمل الإبداعي كان يضم الهندسة و المعمار و التصنيع، بما في ذلك ما يُمكن ان يكون له تطبيقات عسكرية.

هناك إجزاء من المخطوطة عن تصوراته الفنية .. و التصورات تعني رؤيته لكيفية الرسم و النحت من خلال ملاحظاته عن الطبيعة. و لعل تلك من أجمل فقرات المخطوطة حيث نرى عقل و عين ليوناردو يتنقلا بين صقيع الشتاء في جبال الآلب، الى المساحات الخضراء الكبرى في قلب إيطاليا الى الشواطئ الرملية على سواحل البحر الأبيض المتوسط. و في كل ذلك هناك احترام عميق لقوة و عظمة الخلق – من رؤية بعيدة عن قناعات الأديان المنظمة و مُبحِرة في معنى و كينونة الطبيعة. و في تلك الفقرات نرى العالم الباحث في قواعد الفيزياء يلتقي بالفنان ذي الخيال الخصب، و من الإثنين يسطع فكر، غير منظم و ربما أحيانا مُشتت، و لكن فيه ابداع عقل خلاق.

هذا النوع من الكتابات مهم لقراء التاريخ، ليس فقط للمهتمين بسير عظماء مثل ليوناردو داڤنشي، و لكن أيضا (و ربما أهم) للمهتمين بتفاصيل فترات معينة في التاريخ، تظهر ملامح كثيرة لها من خلال كتابات كتلك المخطوطة، حيث نرى شخصيات شهيرة من زوايا مختلفة، و حيث نقرأ عن أحداث هامة من رؤى شخصية عايشت التفاصيل و روتها حسب فهمها الخاص.

هناك أيضا فرصة قراءة كلمات لم تدخل عليها حرفية المؤرخ و لم تُوضع في سرد سياسي معين. تلك المادة الخام تعطي قارئ التاريخ فرصة فهم جديد لافكار و تصورات و قناعات و اهداف، ربما لم تجد طريقها لسرديات التاريخ المألوفة.

تلك المخطوطة ايضاً مثيرة للاهتمام لنا في العالم العربي. ذلك ان هناك فقرات يتحدث فيها ليوناردو عن الشرق، و عن الإسلام، و عن السياسة، خاصة في فترة المماليك .. و الأهمية هنا من زاويتين. الأولى، أن اللحظة التاريخية التي كتب فيها داڤنشي كانت تلك التي قفزت فيها أوروبا أبعد كثيراً من حيث وقف العرب و الاتراك و الايرانيون و غيرهم من المجتمعات المجاورة لاوروبا. و عليه، فهناك أهمية خاصة لكلمات الرجل، خاصة و أنه واحد من أرقى العقول التي أثرت و أغنت الفكر و العلم و الفن الأوروبي في لحظة القفز و الانطلاق تلك.

الزاوية الثانية هي أن حتى تلك اللحظة أوروبا كانت تنظر للعالم العربي و التركي و الفارسي على انه (الأخر) - مختلف، غريب، و كافر (و تلك كانت كلمة متكررة في كتابات أوروبية وقتها قبل ان تخرج اوروبا من غياهب الجهل) - و لكنه على قدم المساواة من حيث القدرة و الفكر و الفن .. و قد كانت تلك أخر لحظة تاريخية لتلك النظرة التعادلية .. بعدها، القفزات الأوروبية في دنيا الفكر و العلم و الفن غيرت تماماً من أسلوب الرؤية الأوروبية (و من بعد ذلك الغربية) لنا. و بالطبع كان تغير النظرة سبب مهم لتغير السياسات.

و أخيراً هناك متعة الإبحار في فِكْر مبدع عظيم مثل ليوناردو داڤنشي أعطى نفسه حرية كاملة في البحث و الفكر و وضع الأفكار و الحديث عنها، بدون التقيد الزائد بما أراد وقتها أصحاب القداسة و الفخامة.