اغلب من كتبوا عن مصر الحديثة بدأوا الحكاية من وصول محمد علي للحكم في ١٨٠٥ . قليلون رأوا ان بداية تجربة مصر مع الحداثة ترجع نصف قرن قبل ذلك ، الى فترة حكم علي بك الكبير ، ذلك المملوك الذي أراد إحياء دولة المماليك ، و استطاع لفترة قصيرة تحرير مصر من السيطرة العثمانية .

لكن الغالب ان البداية الحقيقية لمصر الحديثة ترجع للحملة الفرنسية ، لان السنوات القليلة لتلك الحملة شكلت صدمة للوعي المصري و اقنعت قادة الرأي في البلد حينها انه لابد من تغيير ليس فقط نظام الحكم و لكن الأهم الثقافة الحاكمة .

محمد علي شكل هذا التغيير – من خلال خمسة جوانب .

واحد ، محمد علي كان اول غير مملوك يحكم مصر منذ أربعة قرون على الأقل . صحيح انه منذ سقوط مصر للعثمانيين في أوائل القرن السادس عشر و هناك دائما مندوب للسلطان العثماني في القاهرة . الا ان الحكم بكل فاعليته و اداواته كان دائما في يد المماليك . محمد علي انهى ذلك - عمليًا (من خلال عملية قتل منظمة استهدفت الغالبية الساحقة من امراء المماليك وقتها – كانت اهم خطواتها تلك التي عُرِفت فيما بعد بمذبحة القلعة) ، كما انهاه ايضًا نظريًا . بمعنى ان محمد علي استطاع خلق شرعية جديدة للحكم في مصر تختلف بشكل كبير عن شرعية الحكم العثماني-المملوكي .

هذا يأخذنا للنقطة الثانية . محمد علي وسع من فكرة شرعية الحكم . صحيح ان مجموعة من كبار شيوخ الأزهر كانوا من وفروا القاعدة الرئيسية لوصوله للحكم ، و من خلال تعيين من السلطان العثماني . الا ان قاعدة الوصول للحكم ضمت اكثر من شيوخ للأزهر . على سبيل المثال كان هناك عدد من أهم تجار القاهرة و من اعيان مناطق في الدلتا . كما ان الواقع هو ان تعيينه من السلطان كان تحصيل حاصل ، و عليه فإن ديناميكية السلطة كانت في الحقيقة من القاهرة الى إسطنبول و ليس العكس . و التغييرين – سواء في توسيع قاعدة الشرعية لابعد من رجال الدين ، او في تطوير رغبة مصرية لتصبح فرمان عثماني – كانا تجديدًا في طريقة الوصول الى الحكم في مصر .

ثلاثة ، محمد علي حكم مصر بشكل اختلف جذريا عن من سبقوه . الرجل – على عكس ما يقول المعجبين به (و هو بلا شك يستحق الاعجاب) لم يكن اول من ادخل تجديدات كبرى في الزراعة و الصناعة في مصر . لكنه اول من كان لديه صورة كاملة و متكاملة عن تطوير مصر . لذلك – على عكس ما حدث في عهد علي بك الكبير و على عكس بعض المحاولات المصرية للنقل و التقليد اثناء فترة الحملة الفرنسية – عهد محمد علي (خاصة في العقدين الأوليين) شهد تطوير جذري و سريع في اهم مجالات الحياة العملية . و كانت النتيجة ليس فقط قفزات في التنمية ، لكن ايضًا تغيرات حاسمة في هيكل الاقتصاد .

أربعة ، محمد علي رأى ضرورة حتمية لتطوير جيش للدولة المصرية الجديدة التي أراد – ليس فقط لان طموحه جعله يتخيل مصر حرة من الحكم العثماني ، كما جعله يمد نظره لممتلكات الدولة العثمانية في الشام ، لكن ايضًا لانه رأى من خلال مشاهدته عن قرب لتجربة الجيش الفرنسي في مصر ، ان وجود جيش حديث يمكن ان يشكل نقطة المركز لحلقات تطور و صناعة و تنمية حول تلك الحلقة . و المهم هنا ان تجربة تطوير جيش حديث في مصر كانت الأولى منذ التراجع المهول في دولة المماليك البحرية في القرن الرابع عشر .

خمسة ، محمد علي انشأ دولة عائلية ، و هذه تجربة نادرة في كل التاريخ الحديث للشرق . ذلك ان عائلات حاكمة مختلفة ، مثل العلويين في المغرب او الهاشميين في الجزيرة العربية ثم في الشام ، طوروا حكم قديم ضارب في التاريخ ، و كان التطوير في اغلب الأحوال من خلال اتفاقات مع قوى غربية و اعتماد على القوة العسكرية لتلك القوى للتثبيت و التأمين و الحماية و الاستمرار . تجربة محمد علي كانت شديدة الاختلاف . الرجل بنى حكم بدون وجود أي اصل تاريخي لذلك . كما انه بنى الحكم بدون الاستعانة بأى قوة خارجية – على الأقل في مرحلة الوصول للحكم و تثبيته . و المهم ان ذلك الحكم عاش و بقى لمائة و خمسين سنة ، و لم يسقط بعد جيل واحد ، كما كان الحال في تجربة عائلة بهلوي في إيران .

لكن اذا كان محمد علي صاحب فكر تغيير هيكل الحكم في مصر ، فإن تجلي فكره كان في تنفيذ ذلك التغيير ، و قد كان التنفيذ لصالح العائلة (اولاً) و البلد (لا شك) و لكن بحسابات مع الانسان المصري أحيانًا و ضده أحيانًا أخرى ، كما سنرى في المقال القادم .