واحد من اهم الأسئلة حول عهد محمد علي باشا هو هوية الدولة التي انشأ : هل كانت مصرية ؟ ام دولة عائلية تمصرت مع مرور الزمن ؟

بعض النقاط تستحق التفكير .

واحد – ربما كان التغيير الاقتصادي الأهم في المرحلة الأولى من حكم محمد علي هو تأميمه لكل الأرض المصرية تقريبًا و حيازة ملكيتها . هذا التغير حدث من خلال خطوات متعددة و أحيانًا تحت مسميات مختلفة . لكن الحاصل منه كان السيطرة على كامل الأرض ، و هي وقتها عصب الاقتصاد و أساس الثروة . نتيجة ذلك التغير كانت ليس فقط تملك محمد علي و عائلته الجزء الغالب من الثروة في مصر ، و لكن ايضًا تملكه أساليب الحصول على الثروة ، و عليه الارتقاء الاجتماعي في البلد . هذا القدر من التحكم في المجتمع كان جديدًا ، لم يحدث خلال أي من فترات حكم المماليك . و بالطبع كانت له نتائج سياسية شديدة الأهمية ، لكن ما يعنينا هنا انه أدى الى إخراج القدرة المصرية من اهم مجال حركة اقتصادية في البلد .

اثنين — محمد علي أراد منذ البداية ان يمكن عائلته و ليس فقط نفسه من حكم مصر . اي انه عمل منذ البداية على توريث مصر لابنائه من بعده . و قد بدا هذا واضحًا من تعاملاته الأولى مع السلطان العثماني في إسطنبول ، كما بدا واضحًا من الدور الكبير الذي اتاحه لابنه إبراهيم باشا و من بعده لابناء أخرين مثل طوسون . هذه النقطة مثيرة للاهتمام ، لان محمد علي ، على عكس اغلب المماليك ، لم ينتظر كثيرًا منذ وصوله لحكم مصر ليحاول تثبيت حكم عائلي . على العكس ، منذ البدايات و الرجل يبني لمستقبل رآه لحكم عائلته على هذا البلد الذي استطاع ان يسيطر عليه .

هذه يوصلنا للنقطة الثالثة ، و هي أهمية مصر في فكر محمد علي . هناك من اتهموا الباشا بانه أراد دولة ، أي دولة في أي مكان في السلطنة العثمانية يبني فيه ملكه و يكون عليه الحكم العائلي الذي تمنى . لكن اغلب الظن ان ذلك غير صحيح ، و ان محمد علي رأى في مصر ، منذ مجيئه لها و هو بعد ضابط متوسط الرتبة ، مكان ذو مقومات خاصة ، أهمها الموقع الاستراتيجي . صحيح انه لم يحصل على فرصة أخرى ، في مكان أخر ليحاول فيه . لكن الصحيح ايضًا انه في العديد من المراحل التالية في حياته كان بامكانه نقل أساس ملكه ، او توزيع وجود عائلته على اماكن جغرافية أخرى ، و لكنه لم يفعل . على العكس ، الباشا و اغلب أبنائه قضوا الجزء الأكبر من حياتهم في مصر . و الأهم محمد علي ثبت ما عُرِف فيما بعد بالحكم المصري في كل الأراضي التي سيطر عليها ، سواء في السوادان او الجزيرة العربية او كل الشام .

لكن كلمة الحكم المصري هي النقطة – او السؤال – الرئيسي هنا . هل فعلًا كان ذلك الحكم ، سواء في مصر او في المناطق التي توسع اليها ، حكمًا مصريًا ؟

محمد علي اعتمد بشكل شبه كامل على اتراك و بلقانيين و شراكسه و أوروبيين في تشكيل و تنظيم و إدارة الدولة . و لعل هذا منطقي على أساس ان الرجل كان يريد انشاء دولة حديثة و عليه استخدم عناصر لديها تجارب مختلفة مع الحداثة . لكن اللا مهرب منه هو ان السيطرة غير المصرية على الدولة – اداريا ثم بعد ذلك اقتصاديًا – استمرت طيلة عهد الباشا . كما ان الجزء الأهم القيادي في جيش إبراهيم باشا - و هو الجيش الفاتح الذي وسع سلطان محمد علي - كان في اغلبه غير مصري . بالإضافة الى ذلك ، ان العدد القليل من المصريين الذين بدأوا في الصعود في بعض الأجهزة الوليدة وقتها في الدولة المصرية – خاصة التعليم و الإدارة المحلية – فُرِض عليهم ان يعملوا داخل أُطر كانت مصممة لتحاكي النظم الاوروبية او التركية و التي لم تراعي ، تقريبًا أبدًا ، التراث المصري ، سواء في الثقافة او العرف .

و أخيرًا هناك رؤية محمد علي باشا نفسه لمصر ، و تلك نقطة معقدة . الكثير مما وصلنا ، من خلال مذكرات دبلوماسيين او تجار او رحالة غربيين جلسوا مع محمد علي و استمعوا اليه ، فيه مما يدل على تقدير عظيم من الرجل لهذا البلد الذى استوطن ، و أحيانًا هناك تعبيرات (وصلتنا بالفرنسية او الإنجليزية) تعطي إحساس بان الباشا احب مصر حب من فهم القيمة الخاصة لهذه الأرض و ما تستطيع ان تعطيه . لكن هناك الكثير ايضّا مما وصلنا الذي يدل على استعلاء شديد من الباشا لكل الموروث الحديث لهذا البلد ، و انه رأى في نفسه سيدًا قادمًا من بعيد ليُمدن من بعد تصحر ، ليُعلم من بعد جهل ، و أحيانا ليحي من بعد موت .

هذا يوصلنا الى نقطة أدق ، و هي روية محمد علي باشا للمصريين ، و هذا موضوع المقال القادم من هذه السلسلة .