المشكلة الأولى لحكم الباشا كانت رؤيته لاهل البلد الذي سيطر عليه ، رؤيته للمصريين . كلمات الباشا عنا كانت أحيانًا شديدة و ربما قاسية ، و قد كان فيها تأثر كبير بالتراث العثماني و المملوكي حول قلة الهمة و إن كثُر العمل ، و قلة الاقدام حتى و إن توافرت الأسباب .

لكن الأهم في تجربة محمد علي انه بانشاءه دولة كاملة في مصر ، و طول حكم هذه الدولة ، ثم تطورها لتصبح حكم عائلي ذو شرعية لا غبار عليها ، و استمرار الحكم و الشرعية لمائة و خمسين سنة ، ترسخت رؤيته لاهل البلد في أسس الحكم .

الحاصل من ذلك كان ان تبلور اتجاه عام ظهر في تقريبًا كل السياسات العامة في على الأقل المائة سنة الأولى من حكم عائلة محمد علي ، و هو ان الوجود المصري في الحكم تشغيلي و ليس قيادي ، تنفيذي و ليس ريادي ، وجود العامل و ليس المفكر .

هذا يوصلنا للمشكلة الثانية في حكم محمد علي و هي تثبيت شرعية حكم غير مصري في نفس لحظة ولادة أول دولة مصرية منذ قرون عديدة . ذلك ان دولة محمد علي كانت (كما ناقشنا في الجزء السابق من هذه السلسلة) مصرية في نواحي الشكل – و قد كان هذا تغيُر جوهري في أسلوب الحكم في مصر ، تغير تنافى مع ما سبقه طيلة مدة حكم الأمويين و العباسيين و الفاطميين و الايوبيين و المماليك و العثمانيين ، و بالطبع قبل كل هؤلاء الرومان . لكن اختيارات محمد علي جعلت شرعية حكمه و حكم عائلته من بعده قائمة على موافقات دولية ، بما في ذلك عثمانية ، و ليس على أساس شرعية مستمدة من الداخل المصري . و لعله ملفت جدًا ان محمد علي استمد لحظة الشرعية – و القوة – الأولى من ممثليين لفئات من المجتمع المصري (كما تحدثنا في الجزء الأول من هذه السلسلة) لكنه لم يعد إطلاقًا لهذا النوع من البحث عن الشرعية – كما لم يعد اليه أيا من حكام اسرة محمد علي .

المشكلة الثالثة ان إدارة الدولة تطورت في فترة حكم محمد علي الطويلة ، من حكم فرد بمساعدة مجموعة صغيرة ، الى حكم تشاركي بين محمد علي و ابنه الأكبر إبراهيم باشا ، الى دولة على رأسها الباشا و ابنه و فيها مجموعات ( ذات كفاءات ممتازة) في اغلب مجالات التقدم الاقتصادي و العسكري . لكن في كل تلك المراحل ، ليس فقط سيطر الجانب التركي و الشركسي و الأوروبي (كما اسلفنا في الحلقة السابقة) ، و لكن ترسخ الانطباع – و قد كآن مبنيًا على حقائق – بأن على المصريين التشبه بالاتراك و بالاوروبيين لكي يرتفعوا في تلك الدولة الوليدة .

المشكلة الرابعة كانت النتيجة الثقافية لذلك ، و هي ان الدولة الوليدة – مصر في أغلب القرن التاسع عشر – كانت في الحقيقة دولتين . دولة القمة ، و هي دولة السياسة و الاقتصاد الذي يتطور و التفتح الاجتماعي و التغيرات المهولة في المعمار (و هو دائمآ بوابة لتغيرات كبرى في المجتمع) – و دولة أخرى متلقية لكل ذلك ، و في الغالبية الساحقة من الحالات ، بدون حق الاعتراض او النقاش ، ما بالك بالرفض . الدولة الأولى ، على القمة ، كانت مصرية بالاسم . الثانية – البعيدة عن مراكز القرار - كانت مصرية بالتراث .

مات الباشا و هو شبه منعزل في الإسكندرية . و لاشك ان التركه (كما نقول بالعامية المصرية ) التي تركها كانت عظيمة . هذا الرجل أخذ مصر ولاية عثمانية ضعيفة ، تعرضت لصدمة حملة نابليون و خرجت منها في حالة دوار . محمد علي وجه الرأس نحو اتجاه معين . قدم حلولًا للمشاكل التي أحدثت الدوار – خاصة ، قدم حلًا لسؤال لماذا نحن متأخرون جدًا بينما هؤلاء في الغرب متقدمون جدًا . محمد علي بدل الضعف قوة من خلال بناء أسس دولة حديثة . و قبل و بعد كل ذلك ، محمد علي قدم مثال نادر في التاريخ المصري لقائد لديه رؤية واسعة ، طموح كبير ، إرادة حديدية ، و قدرة على إدارة التنفيذ بشكل جاد مستنير ارتفع عن الجهل الذي رآه سائدًا .

لكن مع تحريك الرأس نحو اتجاه معين ، بقى الجسد متصلب في اتجاه أخر . مع إجابة السؤال عن التأخر خرجت أسئلة اكبر عن أُسس الثقافة السائدة . و مع المثال النادر للقائد تولدت مشكلة ان كل ما اختاره القائد و كل من أحاط نفسه بهم كانوا من غير النسيج التراثي الذي ظهر فيه هذا القائد ، هذا المثال .

تلك التناقضات استمرت مع احفاد الباشا ، أحيانا واصلة الى عقد ، و أحيانًا منفرجة الى حلول . و لعل تجربة إبراهيم باشا ، ابن محمد علي ، في بناء الجيش المصري الحديث مثال هام للتناقضات و العقد و الحلول ، كما سنرى في المقال القادم .