بشير الجميل كان رئيس لبنان ل٢١ يومًا الى ان أغتيل قبل ٤٠ سنة بالضبط. لمجموعات من اللبنانين بشير كان الحلم، كان تجسيدللطموح الذي قامت عليه دولة لبنان الكبير منذ تقريبًا مائة عام. لكن لمجموعات أخرى من اللبنانيين بشير كان الكابوس، كان تجسيد الكارثة التي علقت في جوهر دولة لبنان الحديث.

لاشك ان تقسيم المجموعات هنا فيه، الى حد بعيد جدًا، بُعد طائفي، أي ان المجموعات التي ترى في بشير الحلم اغلبها مسيحية و المجموعات التي ترى فيه الكابوس أغلبها اسلامية. لكن التقسيم ليس طائفيًا في المطلق. هناك مجموعات مسيحية - بما فيها من الموارنة - ترى في بشير مشكلة، وترى في مشروعه كارثة، كما ان بين مسلمي لبنان من يرى في مشروع بشير مقدمات دولة قادرة على العيش و الفعل، و ليست ذاهبة بالضرورة الى صراعات داخلية، اما مكتومة تشل البلد و اما علنية تحمل خطر الانزلاق الى عنف.

بشير وُلِد لاسرة مارونية ذات وزن، و والده بيير الجميل كان في منتصف القرن العشرين واحد من أهم السياسيين الموارنة. كلمة”المارونية” قد تبدو غريبة على آذان الكثيرين خارج لبنان. لكن الموارنة، و هم أقرب المسيحيين الشرقيين للكاثوليك الغربيين، طائفة شديدة الخصوصية - و لعل تاريخها المعقد المتراكم في اعالي جبال لبنان، بعيدًا عن الغالبيات الاسلامية في الوديان و السواحل، اعطاها من الثقة و القدرة على المجابهة، و اعطاها من الايمان بأنها صاحبة أرض مقدسة حباها المسيح بقدسية خاصة، قدر ما اعطاها من القلق من أن الطائفة محاطة بتيارات واسعة منالمسلمين في كل الشام.

لحظة السبعينات كانت من تلك التي زاد فيها القلق الماروني على المستقبل. و السبب انه بعد طرد منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن بعد الحرب بين المنظمة و الجيش الاردني (الحرب التي عُرفت بايلول الاسود)، استوطنت المنظمة لبنان. كلمة استوطنت مقصودة لأن المنظمة جاءت بمجموعات بشرية كبيرة و باسلحتها الخفيفة والثقيلة و تلاقت مع مجموعات عملاقة من اللاجئين الفلسطينيين الموجودين في لبنان منذ عقود قبل ذلك. و ربما الأهم من كل ذلك، ان الوجود الفلسطينى المسلح و الديمغرافي تلاقى مع فكر واحد من أهم (و أرقى) العقول اللبنانية في القرنالعشرين - كمال جنبلاط، و هو غير كونه الزعيم الدرزي الأهم في لبنان في زمنه، كان فيلسوف استطاع مزج خلاصات مدارس فكرية مختلفة، منالهندية الروحية الى الاسماعيلية الاسلامية. تحالف المنظمة مع كمال جنبلاط اعطاها وزن، و جعل وجودها مركز جذب للعديد من التيارات اليسارية في لبنان و كل الشام.

وقتها استشعر أغلب مسيحيو لبنان، و خاصة الجزء الغالب من الموارنة، خطر اعتبره بعضهم وجودي. و قد كان ذلك الإحساس، مع الطموحاتالفلسطينية في السيطرة على مناطق واسعة من لبنان، في قلب بدايات الصراع الذي تحول الى الحرب الأهلية في لبنان.

في لحظة معينة من السنوات الأولى للحرب بدا ان كمال جنبلاط، بمساعدة فلسطينية، على وشك الحاق هزيمة تكاد تكون ساحقة بالمعسكر اليميني في لبنان، ، في قلبه الجزء الأكبر من الموارنة. لكن الذي حدث ان الرئيس حافظ الأسد في سوريا رفض بشكل قاطع السماح لكمال جنبلاط بالحصول على نصر كامل - و قد كان حساب حافظ الأسد ان هزيمة الموارنة ستُغير التركيبة الرئيسية في لبنان، و في ذلك ضياع البلد الي كان الأسد يراه كشبه مقاطعة لبنانية - و لعله كان هناك حساب أخر في عقل حافظ الأسد متعلق بتوازنات في سوريا نفسها.

في تلك اللحظة و الموارنة على حافة ما رأوه كخطر مهول برز بشير الجمَيْل كالزعيم الماروني الأهم، متفوقًا على و أخذًا القيادة من زعماء كانوا أكبرمنه سنًا بعقود و أكبر منه مقامًا بكثير، منهم مثلًا كمال شمعون و هو رئيس لبناني سابق كان في زمنه في الخمسينات و الستينات من أهم سياسي الشرق الاوسط (و أقربهم للولايات المتحدة).

بشير أخذ المسئولية - تحدث و خطب و نظم و جمع المال و السلاح و حارب و قَتل - و قد كان ممن قُتِلوا زعماء من المسيحيين الموارنة انفسهم. لكنالخطوة الأهم التي اخذها بشير كانت الوصول الى تحالف مع اسرائيل كان اساس العملية التي قام بها آرييل شارون (الجنرال الشهير و رئيس وزراء إسرائيل فيما بعد) و تطورت لتصبح احتلال اسرائيل لأجزاء كبيرة من لبنان بما فيها بيروت نفسها.

في نظر البعض بشير استغل اسرائيل من أجل كسب معركته ضد أعدائه و أولهم منظمة التحرير الفلسطينية. لكن في نظر أخريين، بشير أرتكبالخطيئة الكبرى في دنيا السياسة العربية وقتها.

الملفت للنظر ان نظرة إسرائيل نفسها لبشير مليئة بالجدل. في نظر الجنرال شارون، بشير كان صديقًا خاصًا له و لاسرائيل. من ناحية أخرى، عدد من ضباط الموساد الذين تخصصوا في لبنان نظروا لبشير كمجرد عميل، و قد كان لبعضهم اراء قاسية في اخلاقه.

اغتيال بشير بعد ان أمنت له إسرائيل انتخابه كرئيس للبنان، قضى على مشروعه. نحن لا نعرف كيف كان سيحكم اذا قُدِر له أن يعيش. لكن هناك مؤشرات جادة ان بشير رأى انه قادر على إخراج لبنان من دوامات الدم و الدوران في نفس المكان، و انه كان على قناعة بانه قادر على تطوير الفكرالماروني ليقبل بلبنان أبعد من المارونية السياسية الضيقة، كما انه غالبًا تصور نفسه قادر على الوصول الى اتفاقات قابلة للحياة مع الطوائف الاسلامية في البلد، و مع الدول العربية وراءهم.

لكن الرجل قُتل. و في رأي البعض كانت دماءه ثمنًا لدماء أخرى كثيرة سُفِكت، بينما في نظر أخريين، كان موته شهادة من أجل مشروع يراه كثيرون من الموارنة كجوهر معنى لبنان.

يبقى ان فهم تجربة بشير الجمَيْل ضرورية لفهم المشكلة اللبنانية، ليس فقط في جوانبها السياسية المختلفة، و لكن أيضًا في اعماقها حيث الاحلام والكوابيس راسمة لوحة فيها من الجمال بقدر ما فيها من الرعب.