قوات الحلفاء - او بوضوح أكثر، الولايات المتحدة الامريكية و بريطانيا - كانت ستُحرر فرنسا في نهاية الحرب العالمية الثانية سواء كان شارل ديجول موجودًا كممثل لفرنسا او لم يكن موجود. فرنسا كانت ستنسحب من الجزائر سواء كان ديجول وقتها زعيم فرنسا او لا.

تلك رؤى تيار في دراسة التاريخ يعيد النظر في دور ديجول. لكن، على عكس ما توحيه الجمل الأولى هنا، هذا التيار لا يُقلل من دور ديجول، و لكن يحاول ان يفهم اهميته في الحقيقة و ليس في سرديات تُصَور على انها حقيقة.

ديجول في السردية الأشهر و الأهم للتاريخ في فرنسا هو بطل تحرير البلد من الاحتلال النازي، كما هو صاحب القرار في خروج فرنسا من الجزائر - ثم هو قائد المواجهة مع مجموعة الجنرالات التي تحدت قرار الدولة و كادت ان تصل بفرنسا الى انقلاب عسكري.

السردية هنا حول موضوع الجزائر تحوي ما هو أكثر من مواجهة مجموعة داخل القوات المسلحة. الجزائر في الوجدان الفرنسي لم تكن مجرد دولة احتلتها فرنسا، بل جزء من فرنسا وُلِد و عاش فيه اجيال متلاحقة من الفرنسيين. لذلك فان قرار الخروج منها كان اعقد كثيرًا من ذلك حول تونس او المغرب مثلًا. و لذلك، فان دور ديجول في القرار حول الجزائر دخل في الوجدان الفرنسي على انه كان فيه من الصعوبة و الحزم مثل ما كان فيه من حكمة و فهم لحركة سير التاريخ.

لكن النظر في حقائق الاشياء تعطي الجمل في أول هذا المقال مصداقية تقترب من جعل تلك الجمل شبة حقائق مؤكدة. بمعنى انه بالفعل دور ديجول في التحرير من الجيش النازي و دوره في الخروج من الجزائر لم يكن ليُغير شيئًا من النتائج.

لكن هذا لا يعني ان دوره كان محدود - على العكس. التيار القارئ في التاريخ بشكل مختلف ينظر لديجول على انه كان صاحب مشروع، بدأ بالمساهمة المعنوية في تحرير فرنسا، و هي مهمة تولتها بشكلٍ رئيسي - من الناحية العسكرية - الولايات المتحدة و بريطانيا. لكن بلا المساهمة المعنوية، بلا الاصرار على فكرة المقاومة و تحدي اليأس، لم تكن ستوجد فكرة فرنسا الحرة التي بنى عليها الأمريكيون و البريطانيون حملتهم ضد النازي في قلب اوروبا.

بعد التحرير، ديجول طور مشروعه لايجاد دور لفرنسا في عالم ما بعد الحرب - دور اراده ديجول معبرًا ليس عن قوة فرنسا الحقيقية (و قد كانت محدودة جدًا وقتها)، و لكن عن قيمتها التاريخية داخل الحضارة الغربية.

ثم كان ان تطور مشروع ديجول اكثر، فكان الخروج بفرنسا من ما رآه صراع، ليس مع حركة التحرر الجزائرية، و لكن الصراع الداخلي في المجتمع و الوجدان الفرنسي حول معنى الجزائر.

كلمة المعنى هي قلب مشروع ديجول. جوهر ذلك المشروع كان صياغة معنى لفرنسا الحديثة، معنى يُصبح حقيقة غير قابلة للجدال في العقل الفرنسي، حقيقة تترسخ مع الأيام و تصبح من ازدياد قوة الدولة و ثباتها، من ثوابت ليس فقط المجتمع الفرنسي وقتها و لكن التاريخ الفرنسي نفسه.

ديجول نفسه كان أوضح من عبر عن ذلك عندما وصف دوره التاريخي لهيئة مكتبه على انه خْلق وهم و المحافظة عليه.

لكن الاوهام تكتسب مع الأيام عظام و جلد و ملامح، و اذا استمر الايمان بها، تدب فيها الحياة فيخرج من العدم خلق جديد. و هنا يظهر انه كان لتلك الاوهام أصل. كان هناك خيط رفيع يربط الفكرة في الخيال بحقيقة في التاريخ. ربما غابت الحقيقة لقرون، و لكنها بقت في عقل المؤمنين بها كلمة قابلة للقول، كلمة فاعلة في قوتها، كلمة بثت فيما كان في الخيال حياة فاذا الخيال حيًا يتنفس و يتحرك. هذا ما فعله ديجول عندما بدا لأغلب الناس ان فرنسا قد سقطت و ان فكرة الدولة الفرنسيه القادرة غير موجودة بحقائق القوة.

ديجول تحدى ذلك. نظرته كانت معبأة بقراءته لتاريخ فرنسا. قراءة مختلفة عن ما كان سائدا وقتها، و تلك القدرة على إيجاد معاني في التاريخ من أهم من يصنع القادة و من أهم ما يصنعونه لمجتمعاتهم. لذلك فان القراءات الجديدة للتاريخ تنظر لديجول علي انه لم يكن صاحب تغيير فعلي في حقائق الحرب العالمية الثانية او في القرارات الكبرى التي تلتها. لكن في تلك القراءات ديجول صاحب دور ربما أكبر. ديجول اعاد أحياء فكرة فرنسا.