الحاكم الاسباني بعث برسالة طويلة الى مدريد . لكن الملك قرأها كاملة بدون مختصرات من رجال القصر . ما يقوله الحاكم عن الحرير الصيني ، عن الروائع اليابانية ، عن البهارات الماليزية ، عن القطن الهندي و عن العاج الكمبودي شديد الإغراء . و الحاكم الاسباني في الفلبين يُقدِر ان الاسطول الاسباني الراسي على شاطئ الفلبين قادر أن ينتصر على دولة المينج في الصين و يفتح تلك البلد العملاقة للحكم الاسباني . و إن وقعت الصين وقعت وراءها كل شرق آسيا . لكن الملك الاسباني رأي ان مثل تلك الخطوة تحتاج تحضير و زيادة القدرات التعبوية ، خاصة السفن و الرجال . و ذلك لابد ان ينتظر الفتح الاسباني القادم لانجلترا. الارمادا (الاسطول العملاق) الاسباني الغازي الآن لتلك الجزيرة في الشمال الأوروبي سيُنهي تلك الحملة في ظرف أسابيع . و بعد ان يستتب الأمر هناك و يُوضع حاكم اسباني على العرش في لندن ، يمكن سحب أجزاء من الاسطول ، مع ما يمكن ان ترسله الحكومات الاسبانية المحلية في شمال و جنوب أمريكا ، و كل ذلك يجد طريقه الى شرق آسيا .

الخطة الاسبانية في القرن السادس عشر لم تكن جنون . و بتقدير القدرات و الموارد – خاصة المالية – فإن سيطرة اسبانيا على شمال أوروبا ثم تعبئتها لقوة مهولة لغزو الصين – بعد ان ثبتت بالفعل حكمها في الفلبين – لم يكن تعسفًا على الواقع . اسبانيا استطاعت فعلًا خلال قرنين من الزمان السيطرة على أكثر من نصف العالم . و لفترة بدا فيليب الثاني ، ملك اسبانيا الأهم ، و كأنه امبراطور على قارات و ليس فقط على دول .

ما اوقف الزحف الاسباني كانت الهزيمة الشهيرة امام إنجلترا و استطاعة البلاط الإنجليزي تحت حكم اليزابيث الأولى دحر الارمادا الاسبانية .. الهزيمة هنا كانت بداية أفول الإمبراطورية الاسبانية ، و في بعض التقديرات ، بداية الدفع نحو امبراطورية انجليزية . و إن كان سيكون بين الاثنين امبراطورية أخرى (ايضًا بحرية) ، و هي تلك التي كونتها هولندا ، و قد كانت بداياتها ايضًا في شرق آسيا .

و بالطبع بعد ضياع الإمبراطورية البريطانية التي سادت ثلثي العالم لتقريبًا ثلاثة قرون ، جاءت الإمبراطورية الحالية ، الأمريكية .

تلك الدول اختلفت تمامًا في رؤيتها للمناطق و الشعوب التي حكمتها ، و في تصورها و استخدامها لاساليب السيطرة و استمرارية الحكم في الثقافات المختلفة التي تحكمت فيها . و لا شك ان هياكل الحكم في تلك الإمبراطوريات كانت شديدة البعد عن بعضها .

لكن هناك نقطة متكررة ، ظاهرة في كتابات و أوامر و خطابات الحكام الكبار لتلك الامبراطوريات المتعاقبة – من فيليب الثاني الى أهم رؤساء الولايات المتحدة - هي فكرة التميز الخاص للدولة صاحبة الإمبراطورية . ذلك التميز في العمق ، كما يصوره تقريبًا كل منظري تلك الامبراطوريات ، قائم على فكرة الانتداب الإلهي – ان الخالق قد أعطى تفويضًا خاصًا لتلك الدولة ، في تلك اللحظة من التاريخ الإنساني ، لتتوسع و تسود و تحكم و تتحكم .

الانتداب الإلهي هنا لا يعني فقط فكرة الدعم فوق البشري لقوة تلك الدولة لكي تحقق إمبراطورية . الأهم ان هذا الدعم يعني اعتماد الخالق لافكار و تصورات تلك الدولة (تلك الثقافة) على انها الأصوب و الأقرب للحقيقة – إذ لم تكن هي جوهر الحقيقة – و عليه حصلت تلك الدولة على ذلك الدعم الإلهي ، و أصبحت تنجح و تكبر و تسود من خلال ما أمنت انه انتداب من الرب .

بالطبع قوة تلك الفكرة اختلفت عبر العصور . فيليب الثاني رأى الانتداب الإلهي على انه حجر الأساس ليس فقط للامبراطورية الاسبانية ، و لكن لاسبانيا الكاثوليكية نفسها . و لذلك فإن الهزيمة امام إنجلترا دخلت في الوجدان الاسباني على انها أكبر من مجرد هزيمة عسكرية و سياسية ، بل سحب الانتداب الإلهي من اسبانيا . (و قد كانت هناك آراء في الكنيسة في روما رأت ان الهزيمة غضب الهي من الرب موجه للكنيسة في شكل هزيمة امام ذات الدولة التي مرقت و خرجت من عباءة الكنيسة : إنجلترا). إنجلترا ، بحكم تطورات الفكر البروتستانتي هناك و بسبب عنفوان العلمانية و الإنسانية في الوجدان الانجليزي ، كانت لها تصورات أقل حدة و إن ليست أقل يقينًا ، حول فكرة الانتداب الإلهي . حتى في أمريكا ، سواء في لحظات ميلادها او الآن ، الى حد بعيد يمكن فهم الكثير من أهم تيارات القوة الأمريكية ، خاصة في اليمين ، من خلال التعمق في التصور الأمريكي لفكرة المدينة فوق التل ، المدينة الأغنى و الأقوى و الأقدر - و بالطبع المدينة هنا كنية عن الدولة المختارة من الرب ، ليس فقط لتتمتع بغنى مهول ، و لكن ايضًا لتسود و تحكم و تنشر افكارها في كل الأرض .

في الصين ، التصورات حول الخالق و الخلق و الواحدانية بعيدة تمامًا عن مفاهيم اليهودية و المسيحية و الإسلام . لكن نفس الفكرة حول الاختيار الخاص لذلك البلد الخاص ، تلك المملكة الخاصة – الصين – موجودة . و لعل أوجز تعبير هو ذلك المعروف في الفكر السياسي الصيني بجملة : “كل ما هو تحت السماء” . أي ان كل الأرض كلها حق مُعطى للمملكة الخاصة ، الصين .

فكرة متكررة عبر العصور ، و لديها أصداء عندنا في تراثنا الفكري و السياسي .