المحققة الجنائية دور نادر للمرأة في الادب العربي. لكن فاطمة في فيلم يوسف الشابي الجديد، ليست غريبة علينا (نحن المشاهدين). فاطمة ليست شبه باهت لمحققين غربيين – من كولومبو الى هيركول بوارو. فاطمة ايضًا ليست شبه باهت لشخصيات نسائية عرفناها في الادب المعاصر، سواء في روايات احسان عبد القدوس او في اشعار نزار قباني. فاطمة لا هي متمردة على مجتمعها و لا هي الهة يُحج الى عيناها والهون.

فاطمة شخصية متكاملة، و إن كانت تحجب وجدانها وراء ستار من التحفظ في المشاعر و في الأفكار التي تقولها لاخرين. شخصية متكاملة بمعنى اننا بسرعة نرى في فاطمة الجوانب الطبيعية لأي انسان نعرفه. نرى عائلة، قليلة العدد، محدودة العلاقات، بلا مشاعر جارفة و لكن بلا مشاكل طاحنة. فاطمة لديها بُعد اجتماعي نفهمه و لكنها بلا خيوط تُعيق حركتها في المجتمع.

ملامح فاطمة مننا و علينا، كما يّقال بالعامية المصرية. ملامح سيدة شرقية، فيها مما تركه البحر الأبيض المتوسط و تركته وديان و جبال الشام، و تركته واحات الجزيرة العربية، و تركته خلجان تونسية و جزائرية، و طرق اطلسية مغربية، على وجوه نساء عربيات. وجه فاطمة جميل - جمال يراه العائد الى داره بعد سفر، جمال ابتسامة صباح مشمس في يوم عطلة – لكنه ليس جمال آخاذ، ليس جمال مثل ما جر شعراء العربية الى طرق الهيام. جمال فاطمة مريح، مألوف، يتوه في الطرق المزدحمة في العواصم العربية. و في هذا النوع بالذات من الجمال تكمن قوة الألفة، يكمن الاجتياح الهادئ للراحة.

مع العائلة و مع الجمال الهادئ، بسرعة ايضًا نرى عمل فاطمة – المحققة الجنائية. عمل لم نعتاد ان نرى نساء فيه، و لكننا معتادون عليه. نعرف، من مئات الروايات و الأفلام، ما يدخل في تفاصيل هذا العمل. لذلك نحن لا نستغرب عندما نرى فاطمة في موقع جريمة تعطي أوامر متلاحقة بلهجة سريعة – لكننا قد نستغرب ان نسمع تلك الأوامر من فاطمة. الصوت النسائي هنا غير معتاد على الأذن العربية.

و هنا دقة جرس، انتباه، لعقل المشاهد، ان فاطمة، مع كونها خارجة من نسيج المجتمع الذي نعرف، مع انها متناغمة مع تيارات الناس في الشوارع العربية، خارجة منها و سائرة فيها، ربما تحمل معها جديدًا لا نعرف.

و هذا ذكاء الاختيار - اختيار ان يكون المحقق انثى، فاطمة – من تعرف مجتمعنا و نعرفها، من تدخل بيوتنا و نفتح لها الباب باعتياد - لكننا لم نعتاد عليها فارضة علينا أسئلة كثيرة، مطالبة لنا بتفاصيل، و الأهم سائلة لنا مرة وراء أخرى، لماذا فعلنا هذا، و لماذا لم نفعل ذلك. فاطمة مننا و علينا و لكننا لم نعتاد ان تفتح لنا تحقيقًا. الانثى هنا ليست صاحبة دور ثانوي، ليست ديكور جمالي بلمحة اغراء، و ليست مستضعفة في مجتمع ثري قوي. الانثى هنا صاحبة القوة، العقل الفاهم الهادئ الذي يحاول ان يصل الى عمق المشكلة. و ربما الأهم الانثى هنا من يلجأ اليها المجتمع لحل المشكلة، لكشف اين تكمن الحقيقة. بالطبع الانثى هنا تتعدى فكرة النوع. انها تمثيل لكل ما كانوا في سير المجتمع على الهامش، و الآن و قد وصل المجتمع الى زاوية لا مهرب منها، يأتي هؤلاء بمحاولات للحل.

الجريمة في الفيلم مهمة، جزء من الحبكة. لكن بالطبع الأهم هو المعنى الواصل الينا، اننا لسنا فقط امام جريمة واحدة و لكننا نعيش وسط جرائم مختلفة. جرائم بالدرجة الأولى ضد العقل و الوعي، و لكنها في أغلب الأحيان واصلة للمشاعر و جارحة للوجدان. جرائم داخلة في عمق الانسان – في البداية تضربه ثم تكسره ثم تدريجًا تتآكل انسانيته. تلك جرائم لا يعاقب عليها قانون الجنايات، لكن يعاقب عليها المفهوم الحق للإنسانية، المفهوم المرتفع بالإنسان من تراب الجهل بانسانيته الى علاقته اللانهاية بالحق المطلق، بالعدالة المطلقة.

فاطمة لا تبستم كثيرًا. انها الوعي العارف بمدى فداحة الكارثة في المجتمع. لكنها لا تصدر احكام قيمة – على الأقل ليس بلسانها – و ان كان ربما خلف هاتين العينين الصارمتين هناك احكام شديدة على المجتمع.

فاطمة ايضًا لا تهجر المجتمع، لا تذهب بعيدًا في هجرة فعلية او عقلية. فاطمة تعمل من الداخل، تحاول. لكنها على عكس دون كيشوت، لا تضيع مجهودها و وقتها في صراعات مع طواحين هواء. فاطمة تحاول ان تُري المجتمع الجرائم التي تُرتكب فيه – و الجرائم التي يرتكبها. فاطمة تحاول، بوعي العارف الخارج من السياق و لكن الخارج عليه، ان تحقق قدرًا من العدالة - ليس في اطارها القانوني المجتمعي، و لكن في اطارها الاسمى، اطار الترقي الى العدالة المطلقة. فاطمة هنا ليست فقط محقق جنائي عدلي، و لكنها محقق للعدل، تجني منه و اليه.