الكثير من الكتابات الفرنسية في نهايات القرن التاسع عشر تنعت إسماعيل باشا باسماعيل العظيم – بينما وثائق الخارجية البريطانية تشير اليه في العديد من المرات على انه مصاب بجنون العظمة.

بين العظمة و جنونها قد يضيع منا – قراء تاريخ مصر في تلك الفترة – إسماعيل الحقيقي.

إسماعيل لا شك أكثر حكام أسرة محمد علي اثارة للانتباه. سواء على مستوى عظمة الإنجازات او خطورة الإخفاقات او حتى على المستوى الإنساني، إسماعيل حاكم – و شخصية – جاذبة للفكر.

الذي دعى كثيرين من الكتاب الفرنسيين في تلك الفترة الى وصفه بالعظمة هو ان إسماعيل حقق في سنوات حكم قليلة نقلة نوعية في شكل مصر و مجتمعها.

في الشكل إسماعيل وسع دائرة التمدن بشكل غير مسبوق في كل تاريخ مصر. جده محمد علي باشا كان بالطبع (كما تحدثنا في هذه السلسلة) المؤسس الحقيقي لمصر الحديثة، و قد كان جزء من التأسيس تطوير البنية التحتية المصرية و تحويل أجزاء من القاهرة و الإسكندرية من (ما كان قبله) مدن من العصور الوسطى الى مدن على الطراز الغربي. لكن محمد علي، غالبًا بسبب نظرته شديدة الفوقية للشعب المصري، و ربما بدواعي تأمين حكمه من احتمالية ثورة، ابقى التطور في اطار محدود. إسماعيل وسع هذا التطور، و نقل، في سنوات قليلة، الجزء الأكبر من القاهرة و الإسكندرية الى التقدم المدني الأوروبي.

التغير تعدى الشكل. التطويرات التي ادخلها إسماعيل احدث نقلة في النظام الصحي في مصر، كما في المواصلات سواء داخل المدينتين او بينهما و بين الريف في الدلتا. و ربما الأهم ان حجم التطور الذي أحدثه إسماعيل غير من أسلوب الحياة في المدينتين، و عليه ظهرت في مصر بدايات أسلوب حياة مصري - و ليس اجنبي – يعيشه مصرون في القاهرة و الإسكندرية بعيد تمامًا عن أساليب الحياة المصرية التقليدية في الريف.

الناتج من ذلك كان نموذج التطور العمراني و الحياتي الأكبر في كل العالم غير الغربي في كل القرن التاسع عشر. لذلك لم تكن مصادفة ان اليابان، و هي تحاول احداث نقلة اجتماعية كبرى في نهايات القرن التاسع عشر، بعثت بوفد الى مصر لدراسة التجربة المصرية: تجربة إسماعيل.

الوثائق البريطانية تظهر إسماعيل مختلف. الوثائق خاصة في الفترة اثناء الازمة المالية التي مرت بها مصر في نهايات عهد إسماعيل - و التي اضطرته الى بيع اسهم في شركة قناة السويس، و اضطرته بعد ذلك الى قبول الوصاية المالية الغربية، و خاصة البريطانية على مصر - تظهر إسماعيل عصبي، شديد الثورة على ما وصلت اليه الأوضاع، رافض قبول مسئوليته عن النتائج التي احدثتها قراراته، و رافض – في التقدير البريطاني – التعامل مع الواقع. و الملفت آن البريطانيين في تلك الفترة يأخذون رأي بعض الاتراك في كيفية التعامل مع إسماعيل، فما يكون من بعض هؤلاء الا التحريض عليه و وصفه بالجنون.

مفكرو وزارة الخارجية البريطانية لم يروا إسماعيل مجنونًا، لكن بعضهن رأى ان الرجل بعد ان حقق الكثير – و لكن ضاع منه الكثير – وصل الى حدود جنون العظمة متذكرًا فقط ما انجز و ناسيًا ما أضاع.

إسماعيل لم يبقى كثيرًا في ذلك الوضع. بريطانيا رأت ان تعنته في الكثير من القرارت و رفضه لما تراه (مع حلفاء أوروبيين اخرين) ضرورات اقتصادية، يُوجب عزله، و لذلك طلبت (او واقع الأمر أمرت) البلاط العثماني بعزله و استبداله بابنه توفيق. و لعل مشهد قبول إسماعيل للعزل، بقدر من الراحة بدا غريبًا على من كانوا حوله، يُظهر ان الرجل كان قد وصل الى قناعة الى ان دوره قد انتهى.

حياة إسماعيل في المنفى، بداية في إيطاليا ثم في تركيا، لم تكن هانئة. المرض كسره. كما ان كثيرين خاصة في تركيا ابدوا له في محنته عكس ما عرف منهم و هو ملك شديد القدرة واسع الثراء. و لعل التأمل في صوره و هو يجول في القاهرة الجديدة (الخديوية) التي بناها و صوره (القليلة النادرة) في الشهور السابقة لموته، تُظهِر ما جرى، ليس فقط للجسد، و لكن ايضًا للوجدان.

لكن بعيدًا عن الرجل كشخص، كيف يمكن النظر لاسماعيل كحاكم لمصر. هذا موضوع الحلقة القادمة من هذه السلسلة.