اربعة عوامل جعلت من إسماعيل حاكم مختلف عن من سبقوه او لحقوه من ملوك أسرة محمد علي.

العامل الأول ان من سبقوه – خاصة جده محمد علي و ابوه إبراهيم باشا – حكموا بطلاقة يد – بدون تدخل غربي في القرار الداخلي في مصر. من لحقوه، ابتداء من ابنه توفيق و من بعده، حكموا و يدهم مغلولة الى حد بعيد، بسبب ليس فقط التدخل، و لكن الوجود الغربي المباشر الذي فرض نفسه على السياسة المصرية و تحكم في أهم مفاصلها ابتداء من العقدين الأخرين من القرن التاسع عشر.

إسماعيل كان نقطة الفصل بين الاثنين. و لذلك فان تمعُن أسلوب حكمه و إتخاذه للقرارات مهم، لانه امتلك حرية حركة كبيرة لم تتح لمن جاءوا بعده، و لكنه كان مضطرًا للحركة في ظل أنواع من التدخل الغربي لم تفرض نفسها في عز أيام جده و ابوه.

هذا يوصلنا للعامل الثاني، و هو ان إسماعيل كان اول حاكم من اسرة محمد علي يضطر فعلياً الى استرضاء السلطان العثماني في إسطنبول. و قد كان ذلك تغير مهم في واقع الحال، بعد ان كاد ابوه إبراهيم (كما تحدثنا في حلقة سابقة من هذه السلسلة) ان يُسقط حكم العثمانيين و ان يُدخِل الإمبراطورية (او الخلافة) الإسلامية وقتها تحت حكم اسرة محمد علي.

لكن إسماعيل كان في وضع مختلف عن ذلك الذي كان فيه من لحقوه، لان الخلافة كانت في عهد إسماعيل ما زالت في مرحلة الضعف و لكن ليس في مرحلة الترنح، كما كانت في العقود التي تلت حكم إسماعيل. نتيجة ذلك ان إسماعيل كان مضطرًا ان يناور الغرب بدون ان يزعج كثيرًا الدولة العثمانية التي كان، بفروض الشرعية، جزء منها.

العامل الثالث هو ان إسماعيل اول من حكم من خلال بلاط و بدايات بيروقراطية بدا العنصر المصري فيها واضحًا. و تلك كانت نقلة نوعية في أسلوب حكم أسرة محمد علي. قبل إسماعيل – خاصة في عهد جده و ابوه – الدولة كانت للعائلة و الحكم بكل ادواته كان بعيد في الشكل و اللغة و الأسلوب و الأشخاص عن كل ما هو مصري. على العكس، في بعض الفترات، كان هناك ترفع يصل أحيانا الى درجة الإهانة، الى فكرة المصرية.

إسماعيل غير ذلك. صحيح ان بدايات التعليم الغربي لمصريين بدأت في عهد محمد علي. و صحيح ان الانفتاح المصري على العالم زاد من خلال توسعات إبراهيم في الشام. لكن التغير الحقيقي في هيكل الادارة في الدولة، الذي سمح بدخول مصري معقول الى كوادر السلطة، حدث في عهد إسماعيل.

تلك نقطة هامة في تراث الرجل. إسماعيل – مثله مثل كل ملوك أسرة محمد علي – لم يترك أوراق كثيرة. و لذلك كالعادة اغلب ما وصلنا عنه – و عنهم – كان من مصادر ثانية، اما نقلت عنهم مباشرة (بحق او بغيره)، و اما حللت من بعيد. لكن في حالة إسماعيل نحن امام ظاهرة جديدة في التاريخ المصري الحديث، و هي ان اغلب من نقلوا عن إسماعيل كانوا مصريين. صحيح ان حاشية إسماعيل الأقرب له كانت في اغلبها اجنبية، لكن جزء كبير من هيكل الإدارة في عهده كان مصريا. و هذا يجعلنا – بالعقل و ليس بالعاطفة – نتصور ان الرجل حمل لمصر و أهلها مشاعر اعمق – و احترام اكبر – من تلك التي حملها من سبقوه، و اغلب من لحقوه.

النقطة الأخيرة ان إسماعيل كان أخر صاحب مشروع حقيقي من حكام اسرة محمد علي. جده (محمد علي) و ابوه (إبراهيم) – كما تحدثنا في هذه السلسلة – بنوا دولة فيها الكثير من مقومات الحداثة، ثم وسعوا من قدرات هذه الدولة، و أخيرًا جعلوها مركز امبراطورية صغيرة لكنها بدت لعقد من الزمن في بدايات القرن التاسع على انها قوة قادرة على النمو و على ان تكون ذات القول الفصل في كل الشرق. من جاءوا بعد إسماعيل عملوا في محيط ضيق، و تحت سيطرة غربية، و في اغلب الأحوال بادوات محدودة، و لذلك فان فكرة المشروع الكبير القادر على احداث تغيرات كبرى كانت شديدة الصعوبة عليهم.

إسماعيل كان صاحب مشروع. إسماعيل أراد – كما قال بوضوح – ان يجعل مصر جزء من أوروبا. الرجل آمن بإمكانية احداث تطور جذري في الشكل كما في المضمون، و وضع إمكانات مهولة وراء مشروعه. سهل الآن - بعد مائة و خمسين سنة - قول ان المشروع فشل. لكن بمقاييس كثيرة مما اراده اسماعيل، فان المشروع جرى و نما و حقق الكثير، ليس فقط في عقد او اثنين، و لكن طيلة الفترة الليبرالية من تاريخ مصر الحديث - كما سنرى في الحلقة القادمة من هذه السلسلة.