إسماعيل - الجزء ٤ - الرأي القائل بفشل مشروعه
المقال السابق في هذه السلسلة - عن الرأي القائل بنجاح مشروع اسماعيل - تطلب النظر في متغيرات كبرى حدثت في مصر منذ نهايات القرن التاسع عشر و استمرت بتداعيات مختلفة طيلة النصف الأول من القرن العشرين. لكن هذا المقال - عن الرأي القائل بفشل مشروع الرجل - لا يتطلب نظرات في فترات طويلة من التاريخ لأن مظاهر الفشل ظاهرة بمنتهى الوضوح في عصر اسماعيل و ما تلاه مباشرة.
اسماعيل افلس مصر، و الاسوأ انه تسبب في مديونات مهولة لبنوك و دور استثمار في دول شديدة القوة وقتها - بريطانيا بشكل رئيسي - و عليه كان من المحتم ان عدم القدرة على تسديد الديون سيستدعي تدخل اجنبي لفرض احوال اقتصادية و من ثم سياسية لجعل البلد قادرة على خدمة الدين ثم على رده. تلك كانت بداية وقوع مصر تحت الاحتلال البريطاني.
تجربة الاحتلال هم ثقيل في تاريخ أي دولة. لكن في حالة تجربة مصر مع أسرة محمد علي، الاحتلال كان نهاية المشروع، كان الوصول الى نهاية الطريق الذي بدأه محمد علي و جرى فيه ابراهيم باشا (و الذي عرضته هذه السلسلة في حلقاتها السابقة). صحيح ان مصر تطورت بعد اسماعيل و ان التغيرات المهولة التي قام بها احدثت نقلات في المجتمع المصري اخذته الى حداثة حقيقية. لكن فكرة و مشروع وجود مصر كدولة قوية مستقلة عن الامبراطورية العثمانية و عن القوى الغربية، و ذات نفوذ في كل شرق البحر الابيض المتوسط، سقطا مع مع دخول الغرب الى مصر كمتحكم في الاقتصاد و عليه بالضرورة في السياسة.
هناك من يقولون ان اسماعيل شابه أباه. ان الاثنين قادا مشروعين عملاقين في الطموح و الابعاد و ان الاثنين فشلا - ربما - لكن فشل ابراهيم لم يُوقع مصر تحت احتلال. فشل ابراهيم انهى وجود امبراطورية مصرية في شرق البحر المتوسط. في المقابل، فشل اسماعيل انهى وجود مصر كدولة مستقلة.
التحكم الاقتصادي الغربي في مصر كان له بُعد اجتماعي مهم. المقال السابق من هذه السلسلة تحدث عن بداية تكون رأسمالية مصرية ذات وزن كبير بدأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تخرج من التركز في الزراعة الى الصناعة و التجارات المالية و اهمها العمل في اسواق المضاربة و الاستثمار في الاوراق المالية. المناخ السياسي الذي تكون منذ نهايات عهد محمد علي و ابراهيم و ما بعدهما و تمدد في عهد اسماعيل سمح و أحيانًا شجع رؤوس الأموال تلك على التوسع.
كل ذلك تغير مع التحكم الاقتصادي الغربي في مصر، الذي فضل رؤوس اموال اوروبية على غيرها. النتيجة كانت تغير كبير في الاقتصاد السياسي لمصر، تراجعت فيه الفرص امام المصريين. و لعله ليس تجاوزًا القول ان بداية الدخول المصري مرة أخرى في عمق اهم القطاعات الاقتصادية في البلد - الذي حدث في اعقاب الحرب العالمية الأولى - كان من الطبيعي ان يحدث ربع قرن قبل ذلك (على الأقل) لولا النتائج التي ترتبت على فشل اسماعيل.
اخيرا - اذا كان (كما تحدثنا في مقال سابق) فشل توسعات ابراهيم قد انهى داخل أسرة محمد علي ارادة التحدي السياسي لبعض قوى الغرب، فإن فشل إسماعيل انهى ارادة الاستقلال السياسي و الاقتصادي لمصر داخل الدوائر الحاكمة في الأسرة.
اسماعيل نُفي بقرار من السلطان العثماني، لكن المصلحة البريطانية كانت قي قلب القرار الصادر من تركيا. قضى اسماعيل سنواته الأخيرة بين جنوب ايطاليا و شاطئ البوسفور في ضواحي اسطنبول. صوره في تلك السنوات تظهر على وجهه أثار المرض الذي قضى عليه. لكن على الوجه ايضًا اوزان الفشل الكبير و احمال حلم عملاق انهار.
مات اسماعيل، ربما من الحزن قبل ان يكون من المرض. يبقى مشروعه بعد كل هذا قابل للأخذ و الرد - و كما حاولت في هذا المقال و الذي سيقه - يبقى مشروعه صورة لنجاح حدث و إن بعد عقود طويلة، او صورة لفشل ترسخ مباشرة بعد ان سقط الرجل.