إسماعيل - الجزء ٣ - الرأي القائل بنجاح مشروعه
سهل الآن بعد مائة و خمسين سنة قول ان مشروع اسماعيل باشا (خديوي مصر الأشهر) بتحويل مصر الى قطعة من اوروبا قد فشل. و سهل تبسيط فكر الرجل و تخيُل انه كان محدود الفهم لواقع مصر، و ان تصوره لمعنى ان تصبح مصر قطعة من اوروبا، يجعل فكره اقرب الى شطحات الخيال منه الى العقلانية.
لكن هذا غير صحيح ، لأن اسماعيل فسر فكرة ان تصبح مصر قطعة من اوروبا بشكل اعمق كثيرًا مما يتصور كثيرون.
اسماعيل غير من شكل مصر. في عهده اخذت القاهرة و الاسكندرية شكلهما الاوروبي، و تحولت اجزاء من المدينتين الى - بالفعل - قطع من اوروبا. التحول في المدينتين الأكبر في مصر جعل كثيرون من الوجهاء في مدن الدلتا و الصعيد يحاولوا احداث تغيرات مماثلة في مدنهم. لذلك حدثت نقلات معمارية في مدن مثل طنطا و اسيوط في العقود القليلة التي تلت حكم اسماعيل في نهايات القرن التاسع عشر و بدايات القرن العشرين.
التغير العمراني حمل اكثر من مجرد شكل المعمار. تغيُر شكل قلب المدينة يُغير من اسلوب الحياة فيها. و هذا اول ما اراده اسماعيل، و قد حدث هذا في القاهرة، و بشكل اكبر و اسرع مما تصور كثيرون (و هذا واضح في مذكرات عدد ممن عمِلوا مع اسماعيل).
التغير المعماري احدث نقلات كبرى في الاقتصاد. ضُخت كميات مهولة من الاموال في البنية التحتية. جاءت شركات من اماكن مختلفة في اوروبا للعمل في مشروعات التطوير و التغيير. ظهرت رؤوس اموال مصرية جديدة رأت فرص عملاقة في ما يقوم به اسماعيل، و حاولت ان تجد لنفسها موقع لتستغل التغيرات. و بالفعل كانت تلك اللحظة من الأهم في التاريخ المصري الحديث من ناحية تغير شكل الثروة في مصر - اولًا من ناحية دخول صناعات غير الزراعة كمصادر للثروة، و ثانيًا من ناحية امتلاك مصريين، و ليس اجانب، لمواقع بدأ يكون لها اهمية في الاقتصاد المصري.
تغيرات اسماعيل احدثت نقلة غير مسبوقة، لقرون، في تكوين المجتمع المصري. الفرص جذبت اول موجات الهجرة ذات الوزن الى مصر، بداية من الشام، ثم في العقود القليلة التي تلت حكم اسماعيل، من جنوب اوروبا - و قد كانت دول في ذلك الجنوب تمر في نهايات القرن التاسع عشر و بدايات القرن العشرين بفترات حالكة اقتصاديًا دعت العديد من افضل عقولها الى الخروج بحثًا عن حياة و ليس فقط عن فرص.
نتيجة للتغيرات الاقتصادية و للهجرات، بدأ المجتمع المصري يأخذ اشكال جديدة - تكونت جاليات شامية و اوروبية في عدد من مدن مصر. ظهرت اشكال من الثقافة و الفن لم يعرفها المجتمع المصري من قبل. و ربما العامل الأهم: حدث ارتباط بين التطورات التي تحدث في اوروبا و بين مصر - بمعنى ان المجتمع المصري اصبح مواكبًا لما يحدث في اوروبا، و في اغلب المجالات، قادرًا على استيراد و فهم و استيعاب تلك التطورات.
لذلك ظهرت في مصر صناعات (مثل تطوير الزيوت و الاقطان) و مراكز تجارة (بورصات و شركات رائدة في مجالات مختلفة) و مراكز فنون (اوبرا و مسارح مختلفة، ثم بعد ذلك بدايات السينما) بعد سنوات قليلة من ظهور تلك الصناعات و التجارات و الفنون في أكبر العواصم الاوروبية.
كل ذلك احدث ارتباط فكري بين الشريحة الأولى في المجتمع المصري و بين اوروبا. الارتباط لم يعني تبعية فكرية. على العكس، نهايات القرن التاسع عشر و بدايات القرن العشرين شهدا اهم النظرات النقدية من داخل مصر لاوروبا و الغرب بشكل عام. و لم يكن ذلك غريبًا - لأن القادر على الفهم و الاستيعاب و العارف بدخائل الأمور هو القادر على تحليلها و نقدها بمعرفة و بثقة.
لذلك كان الارتباط الفكري بين الشريحة الأولى في مصر و بين اوروبا طريق مفتوح لنقل افكار و فرص، لكن بذكاء.
الأهم، ان استيعاب المجتمع المصري - ببطء و على مدى عقود - للتطورات في اوروبا - جعل طبقات مختلفة في مصر - من المصريين، و ليس المهاجرين - ترى و تقدر الارتباط الفكري مع اوروبا. صحيح ان هناك من رفضوا هذا الارتباط - و قد استمر هذا الرفض و تطور الى اشكال حادة فيما بعد. لكن الظاهر - بوضوح - ان اشكال و فوائد التطور الذي حدث في مصر نتيجة مشروع اسماعيل - اقنعت كثيرين (من طبقات مختلفة) بضرورة اطالة النظر - و كان ان بدأت التغيرات الاجتماعية التي حدثت على قمة المجتمع المصري في نهايات القرن التاسع عشر تجد طريقها الى طبقات أخرى في بدايات القرن العشرين.
تلك التغيرات - في دخول التعليم غير الديني، في معاملة الفتيات و النساء، في اشكال الأكل و المظهر و الملبس و البيوت، و في التعاملات الاجتماعية - نقلت الكثير و الكثير من الحياة الأوروبية الى وسط المجتمع المصري.
اسماعيل لم يكن واهمًا عندما بدأ تغيراته في قلب القاهرة و الاسكندرية. و لم يكن سارحًا في دروب خيالية عندما تصور انه يمكن نقل اشياء من اوروبا الى مصر - اشياء تُحدِث نقلات نوعية كبرى في شكل و كيان المجتمع المصري - لأن ببساطة، تلك التغيرات حدثت و استمرت. لكن السؤال التالي - موضوع الجزء القادم من هذه السلسلة حول اسرة محمد علي - هو: و ماذا بعد؟ هل كان لتلك النقلات و التغيرات في الكيان تبعات خطيرة على البلد، تبعات جعلت من مشروع اسماعيل فشل تاريخي؟