البداية من النهاية . المصراوية ، عمل أسامة أنور عكاشة الأخير . المحاولة الأخيرة لحكي الحكاية ، هذه المرة من أول القصة . و في فهمه ، القصة بدأت من نهايات القرن التاسع عشر . مصر الحديثة ، البلد الخارج من سبات قرون ، ربما استيقظت مع اندفاع جيوش محمد علي و ابنه إبراهيم باشا الى الشام . الاستيقاظ ربما جاء من وهج طموح و عزيمة الباشا و جسارة و براعة ابنه . و ربما – و لا مفر من الإقرار بذلك – ان غالبية الناس لم تستيقظ من تلك الاندفاعة . مشروع الباشا و ابنه كان شخصيًا ، او عائليًا ، و لكنه لا شك لم يكن مصريًا بمفهوم ملكية المصريين لذلك المشروع . في نظر الباشا المصريين كانوا أدوات ، و رأي الرجل فيهم (فينا) لم يكن مليئًا بالمديح .

لكن الاستيقاظ لابد ان جاء من التضحيات التي طلبها – او أمر بها – الباشا . آلاف من الرجال و الشباب سيق بهم الى الجهادية ، ليلتحقوا جنودًا بجيش الباشا . ربما أغلبهم لم يعرف لماذا يحارب على جبهات صحراوية في اول الشام ، ثم في جبال في وسط الشام (في لبنان) ، ثم في مدن و أراضي زراعية في شمال الشام و جنوب تركيا عندما كاد جيش إبراهيم باشا ان يُلحِق هزيمة ساحقة بجيش السلطنة العثمانية . لكن هؤلاء الذين سيقوا من قراهم (و الغالبية الساحقة منهم كانوا من دلتا النيل) ليُحاربوا في الشام تركوا وراءهم أهالي لا يعرفون لماذا و الى أين ذهب من أخذتهم السلطة . هذا الفراغ لاشك ايقظ كثيرين ، نبههم ان هنآك شيئًا كبيرًا يحدث .

و عندما قرر الباشا أن يأخذ كامل الأرض المصرية ليُعيد بناء الاقتصاد المصري وفق الرؤية التي تصورها – و كانت متأثرة بتجارب تنموية في فرنسا القرن الثامن عشر – جاء الاستيقاظ كصدمة لمن لم يكن قد فاق بعد . في اقل من ربع قرن تغيرت الصورة الاقتصادية و الاجتماعية و الديمغرافية للمجتمع المصري ، خاصة في الدلتا ، بشكل لم يحدث منذ عهد المماليك الأوائل .

هنا ، في منتصف القرن التاسع عشر ، بدأت مجموعات في المجتمع المصري تُبلور تصوراتها هي لمجتمعها . راحت صدمة الاستيقاظ العنيف و جاء وهج احتمالات الفرص .

أغلب المؤرخون نظروا في تلك المرحلة من خلال أفكار و اعمال الرعيل الأول من المصريين الذين اقتربوا من دوائر الحكم ، و كلهم بلا استثناء تقريبًا رجال تعليم و قانون اختارتهم دوائر مقربة من محمد علي باشا ليذهبوا الى أوروبا ليتعلموا و يدرسوا و يعيشوا فترة ليرجعوا بعدها و يمارسوا ما تعلموا و عاشوا هناك . نظرة المؤرخين ركزت على ما قام به هؤلاء المصريون من اعمال ، خاصة من بناء المؤسسات الأولى للدولة المصرية الحديثة . و تلك رؤية مهمة لانها كاشفة ، من فوق ، للتغيرات المهولة التي حدثت في مصر في نهايات القرن التاسع عشر .

لكن أسامة أنور عكاشة اختار ان يُرينا الصورة من الداخل ، ليس من فوق . و هنا كانت بدايةً المصراوية . أسامة انور عكاشة رسم صورة قرية مصرية في جنوب دلتا النيل – قلب مصر .. و الاختيار فيه من الذكاء بقدر ما فيه من فهم لتاريخ مصر . جنوب الدلتا ما زال في القلب و لكنه متصل بشمال الصعيد ، عمق مصر و عزها و عزمها . لكن أسامة انور عكاشة كان محددًا في رؤيته . لم يتركنا نتوه في القرية و عائلاتها و ديناميكياتها . اعطانا صورة عامة ، و هي صورة تقليدية نعرفها بالوجدان إن لم يكن بالتجربة . لكن تركيز أسامة انور عكاشة كان على العمدة ، موضع القوة و الفعل في القرية . العمدة شخص ، و ذلك أول خيط في نسيج المصراوية . لكن العمدة كبير عائلة ، على رأسها أمه و فيها أخوته و نسائه ، و في خلفية الصورة أطفال يولدوا حاملين معهم مطالب تُولِد في عقل العمدة طموحات . و كل هؤلاء خيوط في ذات النسيج .

أسامة أنور عكاشة اختار ان يُدخلنا داخل عقل و وجدان العمدة ، ليكشف كيف رأت الطبقة الوسطى المصرية وقتها الفرص النابعة من الاستيقاظ و الصدمات التي حدثت في العقود القليلة السابقة . المصراوية لا تُضيع وقت كثير في حياة القرية . إسامة أنور عكاشة ينطلق من طموح العمدة التواق الى القوة و التوسع ليأخذنا الى طنطا (قلب الدلتا) ثم سريعًا الى القاهرة و الإسكندرية ، تجليات مصر الحديثة . الرحلة تبدأ من وصول القوة المعتمدة على العمق المصري الى اطراف الاعصار الذي هو تغيرات المجتمع المصري في نهايات القرن التاسع عشر و بدايات القرن العشرين .