الإسكندرية تنظر الى البحر . أحيانًا الى شواطئه الشرقيه الشامية و أحيانا الى شواطئه الشمالية الأوروبية . تلك النظرات تعبر بروحها البحر لتلاقي الروح التي خلقتها ، روح بحرية يونانية . لكن عمق فكرة المصرية يجذب السيدة الجميلة فتنظر الى الخلف ، الى المزارع الخضراء في الدلتا ، الى النيل الجليل الواثق القوي ، ذلك الرباط الذي تستند عليه عندما تحتاج الى خير العمق . و في نظراتها الى ذلك العمق ترى الإسكندرية السيدة الأكبر – أخت أحيانا ، أم أحيانا – القاهرة . و بين النظرات الى البحر و تلك الى العمق ، تشكل وجدان الإسكندرية .

في الوجدان المصري الإسكندرية فاطمة أحيانا و ماريا أحيانًا .

فاطمة وجهها الملتفت للعمق لكن المحب – و الفاهم - للبحر . فاطمة السائرة على الشاطئ باتجاه المرسي أبو العباس . فاطمة واثقة من ثباتها على تلك الأرض لانها الأكثر اتصالًا بوجدان العمق ، الأكثر إحساسا بروح الدلتا و النيل ، الأكثر فهمًا لمعاني السيدة الثابتة في التاريخ و المُثبتة للوجدان المصري ، القاهرة . فاطمة ذات اليقين من انها على ارضها و باقية فيها . في الإسكندرية ولدت و في الإسكندرية تعيش و في الإسكندرية المصرية ستبقى .

فاطمة هي سوكة في رائعة أسامة “الشراغيش” . فاطمة تحب بهدوء على الظاهر ، لكنها تعطي بفيضان يعم من حولها . فاطمة من ملامح أسواق الإسكندرية الداخلية . فاطمة تعرف حواري الداخل كما تجد اقدامها الساحل . فاطمة عالية الصوت كما لو انها تريد – تحتاج – ان يصل صوتها الى العمق و لا يضيع في هواء البحر . فاطمة مصرية بلا جدال في وجدان كانت ملامح مصريته دائمًا محل جدال .

ماريا هي قلب ذلك الجدال . ماريا اقدم في الإسكندرية ، و ان تظهر دائمًا اصغر من فاطمة . ماريا في نظر كثيرين صاحبة الفكرة ، و الفكرة أساس الوجود . ماريا هي الوجدان المتصل بالبحر و المرتبط بالجزر التي اتى منها المؤسسون الأوائل لتلك المدينة . ماريا دائمًا ناظرة للبحر . هناك خلف الأمواج يكمن المنبع ، منبع لا تراه ماريا غربيًا و لا أوروبيًا ، منبع من البحر و به ، منبع على شكل بيضاوي كشكل حوض المتوسط ، يسكن مركب بأشرعة عالية ، دار على موانئ المتوسط ، أخذ منها ما أخذ ثم هبط الإسكندرية و اودع فيها جميل و غالي ما رأى و فهم و استحوذ . في وجدان ماريا الإسكندرية سيدة ذلك البحر ليس لأنها الأجمل – ربما هي ليست كذلك – لكن لانها الأكثر تشبعًا بثقافات المتوسط .

و هنا مربط الجدال . ماريا لا ترفض وصل الإسكندرية بالعمق . ماريا في الإسكندرية منذ قرون ، و هي تعرف بالعقل ان العمق ثبات . كما ان لماريا أقرباء شدتهم أضواء القاهرة الساطعة ، و قد جاءوا الى السيدة الكبيرة طالبون و استوطنوها شاكرون و قد صاروا مع الزمن من أكبر المحبون . ماريا مصرية بمفهوم غنى الرحلة التي قام بها عمدة المصراوية على مدى سنين ، الرحلة التي فهم فيها و استوعب ثراء الوجدان المصري . ماريا تنتمي الى هذا الوجدان . أبدًا لم ترفضه ، على العكس أحيانا كانت اجمل التعبيرات عنه . ماريا تحب فاطمة و تفهمها و تعرفها معرفة الصديقة القريبة و الجارة التي هي اقرب من الأهل .

لكن ماريا ترى في الإسكندرية مكان خاص في مصر . في عيون ماريا الإسكندرية صلة ذلك الوجدان الثري بالبحر ، بالشمال . في عيونها الإسكندرية لابد – بالضرورة كما بالفائدة لمصر – ان تثبت عيونها على البحر . في وجدان ماريا ، ذلك الثبات على البحر هو الجسر الوحيد الذي يضمن لمصر استمرارية الانفتاح على الدنيا ، الذي يضمن وصول نسيم بارد يوازي سخونة الصحراء .

في عيون ماريا ، ثبات النظر للبحر حقيقة تاريخية .. تسمعها تكاد تصرخ “اجدادي من خلقوا الحياة على هذا الشاطئ . هم من بنوا على خلجانه و نتوءاته عمدان الوجود” .. كما هي حقيقةً جغرافية .. كما لو انها تخاطب مصريين مثلها لم يستوعبوا سعة الوجدان المصري ، و بلكنتها الإسكندرية تقول ، “اذا كان النيل قد اعطى البحر من مائه و روحه على مدي قرون و قرون ، فانا من قد استوعب من البحر و اعطى الوادي و الدلتا” .

صوت ماريا كان عاليا لقرون . و الأهم كانت العيون ، و اغلبها من اهل الدلتا و الوادي – و من كثيرون من اهل سيدة الوجدان ، القاهرة – تنظر بإعجاب لشعرها الطائر مع هواء البحر ، لجسدها المغري بمفاتن الجمال ، لرقصها المعبر عن عشق للحياة و للعيش .

صوت ماريا كان واصلًا لابعد من حدود الدلتا و الوادي . كان عابرًا للبحر . و هناك من الجزر التي اتى منها المؤسسون الأوائل للاسكندرية تغنى كثيرون بجمال – و الأهم بقيمة – ماريا ، بقيمة الإسكندرية كما رأوها و فهموها . تغنوا فالفنار القديم ، و قالوا من قلب أثينا – في واحدة من اشهر أغنيات الفلكلور اليوناني – “يا سلام” ، مازجون العربية باليونانية و راسمون ماريا في وجدانهم صورة فيها من ملامح مصرية الدلتا و الوادي كما فيها من ملامح شواطئ المتوسط الشمالية .

لذلك – كما سنرى في الجزء القادم من هذه السلسلة – كان في طرح أسامة ، ان هناك ، على شاطئ الإسكندرية ، بين فاطمة و ماريا ، تكمن تعقيدات مهمة في السؤال الضارب في التاريخ المصري ، سؤال مصر عن هويتها .