انا السؤال و الجواب . انا مفتاح السر ، و حل اللغز .

الجملة – في التتر – تُعاد و تُعاد ، بصوت يحيى الفخراني ذو المكان القديم الهادئ الذي نحته ذلك الفنان لنفسه في الوجدان المصري ، و حول الجملة صوت محمد الحلو المشبع بغنى الريف المصري . و مع الصوتين تردد الالسنة الجملة ، و مع الإعادة تغوص في الوعي .

الجملة على لسان بطل زيزينيا ، و هي اول جمل المسلسل ، كما هي حاصل كل رسائل أسامة لنا . هي جوهر الرحلة الإبداعية في معاني و مكونات و تفصيلات و تناقضات الهوية المصرية .

رحلة أسامة عبر ثلاثة عقود هي محاولة تحديد السؤال – ما معنى مصر - و طرحه من نواحي مختلفة – و هذا طبيعي في بلد ذو تاريخ ممتد لاكثر من سبعة آلاف عام - ثم محاولة الإجابة عن السؤال من زواياه العديدة بطرق مختلفة كما هي متداخلة .

هذه الرحلة هي الأهم في الدراما المصرية في النصف قرن الماضي . ليس فقط بقيمة الابداع و لكن ايضًا بعمق التأثير .

و هذا سبب اختيار الرحلة ، سبب اختيار أسامة ليكون المرجع في هذه السلسلة . هناك غير أسامة أنور عكاشة من حاولوا ان يغوصوا في هوية مصر و محتواها ، و كانت محاولاتهم زكية ، لكن أسامة جعل من ابداعاته على مر ثلاثين سنة نسيج متكامل ، له اول و أخر و فيه الوان بارزة تأخذ العيون و تترك اثرها في من رأوا . و قد كان ان ابداع الرجل كان من عمدان تكوين وجدان جيلين او ثلاثة من المصريين ممن ولدوا منذ الثلاثينات الى الثمانينات .

كثيرون من الشباب في مصر الآن لا يعرفون أسامة . و قد تكرر السؤال لي في الأسابيع الماضية : من أسامة هذا ؟ و لم استغرب ، لأن الرجل كتب و قدم في عقود مضت و كان نسيجه لاجيال كلها الآن بعيد عن عمر الشباب .

لكن هنا يكمن الهدف من هذه السلسلة . ان تكون محاولة لاعادة طرح ما قدمه أسامة لمن لم يروه . و النقطة ليست الحبكات الدرامية للمسلسلات ، فتلك تضعف مع الأيام . و ليست أسماء شخصيات كانت في الثمانينات و التسعينات ملئ الحياة اليومية المصرية ، لأن الدراما بطبيعتها وليد لحظتها ، و شخصياتها ، مهما دخلت في أعماق الوجدان ، هي في الغالب ذاهبة للنسيان ، لان هناك خلق ابداعي جديد سيُزيحها جانبًا . المهم هو الاحتفاظ بالمعاني التي الهمتها تلك الابداعات الدرامية ، لانها شاركت في صنع أفكار و تصورات أجيال ، و كانت مشاركتها عظيمة القيمة .

و ربما يجب الاعتراف في نهاية هذه السلسلة بأن النسيج الذي قدمته في أجزاء السلسلة العشر فيه من افكاري قدر ما فيه من الهامات صانع النسيج . لكنه ليس جديدًا ان يوسع لاحقون بئرًا حفره سابقون ، لعل التوسعة تكون ذات فائدة لمسافرين قادمين .

و الحق ، لمن وعى ، ان جوهر مصر سر و لغز . و السر و اللغز اكبر و اعمق مما تتيحه تأملات سريعة عبر عشر مقالات عن ابداعات درامية . لكن كل ما حاولته هذه السلسلة ان تأخذ المهتمين عبر رحلة في الوجدان ، يجولوا فيها في مزارع و قرى و شوارع و حارات و شواطئ تأخذهم لمعاني جميلة بقدر ما هي عميقة في تطورات صورة و معنى مصر امام الدنيا و امام نفسها في المائة عام الماضية . ذلك ان في تلك الرحلة اسرار و الغاز و ثروات يحفل بها تاريخ و ثقافة و وعي هذا البلد ، مصر ، صاحبة النسيج الأكبر ، صاحبة التجربة المهولة ، صاحبة و ملهمة و ملكة الرحلة .