قدوم العمدة من جنوب الدلتا الى طنطا و انطلاقه منها الى القاهرة و الإسكندرية هي البداية الحقيقية للمصراوية ، هي النقطة التي تأخذ منها القصة اندفاعها ، لأن القصة في قلبها حكاية البحث عن جوهر مصر و تغيرات وجدانها – بما في ذلك القفزات و العثرات – في المائة و خمسين عامًا الماضية .

طنطا محطة مهمة ، و اختيارها ، كالعادة مع أسامة أنور عكاشة ، مقصود . طنطا في بدايات القرن العشرين المركز الجديد للتجارة النابعة من الصناعات الجديدة التي ادخلها محمد على و إسماعيل باشا في مصر . المدينة بحكم موقعها المتوسط في الدلتا ، و ربما بحكم كونها مركز زيارات (و مولد) قديم (لوجود جامع السيد البدوي هناك) ، شهدت تطور عمراني كبير ، كما كانت من أوائل و أهم مراكز السكة الحديد التي أنشأتها بريطانيا في مصر . و أخيرًا طنطا مدينة نجحت منذ قرون في اجتذاب رؤوس أموال من ما حولها (ليس فقط في الغربية و لكن ايضًا من الشرقية و البحيرة و المنوفية) ، و لذلك كانت قادرة مع بدايات الصناعات و التجارات الجديدة ان تستوعب و تستثمر .

لذلك فإن عمدة القرية يجد في طنطا إطار اجتماعي و اقتصادي ، ليس فقط اكبر كثيرًا و أكثر تنوعًا مما عرف في جنوب الدلتا ، و لكنه ايضًا يجد في طنطا تحضيرًا لما هو قادم – القاهرة و الإسكندرية .

أسامة انور عكاشة لا يقع في فخ التهويل . نحن لا نرى العمدة مبهور ا او مأخوذًا بالعالم الأكبر الذي يراه و يتعامل معه في قلب الدلتا . على العكس ، أسامة انور عكاشة يعطينا العمدة مفكرًا و مخططًا لكيف يمكن ان يستفيد من ما تتيحه طنطا من فرص .

و الطريق ، كما هو متوقع ، هو الأرض . العمدة يريد أن يشتري أرض . يريد ان يبني بيت . يريد ان يُوجِد في طنطا قاعدة ثراء يضع فيها بعض من المدخولات الناجمة من ثروته (أرضه) في جنوب الدلتا . لكنه يريد ايضًا أن يُوجِد قاعدة اجتماعية (بيت بالمعنى الأوسع للكلمة) يخطو من عليها الى مجتمع وسط الدلتا .

التركيز على الأرض طبيعي و متوقع لأن الأرض وقتها أساس الثراء في مصر ، و منطلق أي ترقي اجتماعي .

أسامة انور عكاشة يوضح تلك الأدوار التي لعبتها الأرض وقتها . لكنه يذهب أبعد . أسامة يجعل الأرض موضع صراع بين ثلاث قوى رأسمالية . واحدة من الصعيد قادمة الى طنطا – كما العمدة – باحثة عن فرص بادية في الأفق . ثانية أجنبية ، تركية ، قادمة من موقعها في القاهرة لتوسع ممتلكاتها في الدلتا . و القوة الثالثة بطل المصراوية ، العمدة القادم من جنوب الدلتا .

الحبكة هنا ذكية ، لأن الصراع على الأرض يعطي أسامة أنور عكاشة نسيج كبير يتحرك فيه . لكن الصراع ايضًا تصوير لقوى يريد أسامة أنور عكاشة أن يسلط الضوء عليها ، لأنها أساسية ، ليس فقط في المشهد الاقتصادي المصري وقتها ، و لكن الاجتماعي و السياسي أيضًا .

الرأسمالية التركية تمثل الأرستقراطية الأجنبية القادمة من الأثر العثماني في مصر كما تمثل كل ما خرج من مشروع محمد علي في مرحلته الأولى – المرحلة التي كانت فيها الغالبية الساحقة من الأراضي المصرية في ايادي غير مصرية . تلك ايضًا لفتة من أسامة أنور عكاشة لنا (المشاهدين) الى ان مجتمع القرية التي بدأنا الرحلة منها و مجتمع طنطا التي وصلنا لها ، بكل ما فيهما من مكونات مصرية ، ما زالا في تلك اللحظة بعيدين جدًا عن مواضع القوة في الدولة المصرية آن ذاك .

التفرقة بين رأسماليتين مصريتين – العمدة من الدلتا و أخر من الصعيد – أولى توضيحات أسامة الى تنوعات مصر وقتها ، الى أن رحلة عمدتنا ليست الا واحدة من رحلات مختلفة بدأت من نواحي متفرقة في مصر في تلك اللحظة التي بانت فيها في الآفق فرص . و كان تلاقي الرحلات الأول في قلب الدلتا التي كانت وقتها تشهد ثورات ستُغير ملامحها الاجتماعية تمامًا ، كما سنرى في المقال القادم .