توقفنا في المقال السابق بعض الوقت مع عمدتنا - بطل المصراوية - في طنطا .

طنطا هنا تمثيل لدلتا النيل - الوعاء الأهم لروح و تاريخ الريف المصري - في لحظة تغيرات هامة في تاريخه .

التغير الأول في التكوين . نهايات القرن التاسع عشر و بدايات القرن العشرين شهدت اول هجرة حقيقية منذ قرون عديدة الى الريف المصري . البداية كانت من أنحاء في الصعيد البعيد جاءت لتستفيد من الفرص التي ظهرت مع التوسع الزراعي الناتج عن اصلاحات محمد علي ثم اسماعيل باشا . لكن حجم الفرص (و اهمها كان ادخال القطن الى مصر ثم الزيادة المهولة في اهمية القطن المصري بسبب تأثيرات الحرب الأهلية في الولايات المتحدة الأميركية) جذب أخرين ، من خارج مصر . جاء شوام ، من الشام القريب (فلسطين) ثم من الجبال (موارنة) ثم من شمال الشام (خاصة من حلب ، و قد كانت من اكثر الاماكن تأثرًا في تلك الفترة بصراعات بين القلب التركي في اسطنبول و الاقاليم العربية) . و بالرغم من ان أغلب الشوام قصدوا المراكز الكبرى (القاهرة و الاسكندرية) الا ان كثيرون منهم ارادوا الوصول الى أصل الثروة - الى الأرض . نفس الفترة شهدت مجئ بعض الأرمن و اليهود ، و إن كان باعداد اقل كثيرًا من الشوام . الحاصل من تلك الهجرات ان مدن مثل طنطا و المنصورة شهدت تغير كبير في تكوينها الديمغرافي في تلك الفترة .

التغير الثاني ، و هو ناتج عن الأول ، كان في اساليب الحياة . المهاجرون الجدد اتوا بمظاهر جديدة : ملابس ، طعام ، مفروشات ، لغات .. لكن الأهم انهم جاءوا بعادات جديدة بدأت تظهر في مجتمع الريف وقتها على استحياء .

اللافت للنظر هنا ان الريف المصري لم يرفض تلك التغيرات . هذه نقطة توقف اسامة انور عكاشة عندها كثيرًا ، ليس فقط في المصراوية و لكن في غيرها من اعماله ،. صحيح ان مجتمع الريف المصري لم يتقبل التغيرات بسرعة ، لكنه اهتم بها ، و وجه عينه الى ذلك الجديد الذي قدِم اليه . و كان ذلك الاهتمام بداية تفاعل شديد الاهمية غيَّر بهدوء و على مدى طويل من اساليب - ليس فقط الحياة - و لكن التفكير في الريف المصري .

اسامة انور عكاشة يعطينا لمحات مختلفة من ذلك . اولها ، ان العمدة يتعامل في طنطا لأول مرة مع مجتمع متعدد التكوين و الطابع ، و هذا يدفعه سريعًا الى توسيع اهتماماته من “ماذا يحدث في الزمام” (محيطه الضيق) الى “ماذا يحدث في البلد” (محيطه الأوسع).

لكن اللمحة الثانية اذكى . في تلك اللمحة والدة العمدة تستمع لما يقول بعد عودته من رحلة الى طنطا ، و في ما قال افكار اجتماعية سمعها هناك ، و السيدة تفكر و لا ترفض الغريب من الاراء ، بل تناقش و تضيف . هنا اسامة يعطينا عمق الريف المصري الواعي لفائدة ما هو جديد ، القابل بالتقدم ، و كل ذلك ممثلًا في الصورة الأهم (و ربما الأحق) لوجدان ذلك الريف - السيدة الكبيرة - ست البيت ، بكل ما تحمله كلمة “ست” من ثقل ، و بكل ما يمثله “البيت” من احتواء للهوية .

بالطبع الهوية هي الحبل غير المنقطع في كل أعمال أسامة انور عكاشة .. كما يقول الانجليز ، هي الخيط الذهبي في النسيج .. و هنا ، في تلك اللحظة من المصراوية ، أسامة يعطينا التفاف قوي في النسيج ، يعطينا نقطة مركزية و هي ان قبول الهوية الأصلية للريف المصري بالتغيرات القادمة من الأغراب (و اللفظ على لسان اشخاص في ريف المصراوية) دليل ثقة بالنفس ، دليل عِلم المجتمع بقدرته على استيعاب الطاريء عليه و احتوائه داخله ليصبح جزء من الكل الأصلي . و لعل من عبقرية أسامة انور عكاشة انه يعطينا مشهد تستقبل فيه أم العمدة واحدة من الأغراب ليس فقط بترحاب من يملك البيت ، و لكن باهتمام و شوق الطالب للجديد . الرسالة المؤكدة الواصلة الينا ان الغريب سيصبح قريبًا ، و مع الوقت سيصبح من أهل الدار- ان البيت الريفي (الوجدان المصري في الدلتا) سيستوعب ذلك الجديد .

لكن في نفس اللحظة – و أيضا من خلال حوار العمدة مع امه - يقدم أسامة انور عكاشة لنا غريبًا أخر ، غريبًا أجنبيًا متسيدًا ، يأتي ظهوره على الصورة بدواعي قلق و ليس بابتسامات و كلمات ترحاب . اسامة انور عكاشة يعطينا صورتين لذلك الغريب . الصورة الأولى هي الارستقراطي العثماني . الصورة الثانية هي الحاكم الانجليزي . و مع الاثنين اسامة يعطينا صورتين ثريتين لنوع مختلف من تعامل وجدان الريف المصري مع فكرة الغريب – غريب قادم من بعيد ، يريد ان يأخذ و لكنه أيضًا لديه ما يُعطيه ، كما سنرى في المقال القادم .