الغريب القادم من بعيد… غريب أتى ليأخذ ولكن لديه ما يقدمه… تلك كانت وقفتنا فى الحلقة السابقة. الغريب الأول هو الأرستقراطى العثمانى، والثانى كان الحاكم الإنجليزى .

نأخذ الثانى أولًا.

هو حاكم، والحاكم فى الوجدان المصرى متحكم . له الأمر النافذ والكلمة العليا، والغالبية فى تعاملهم معه مأمورون ومنفذون. و هكذا يظهر الحاكم الإنجليزى فى خلفية الصورة فى المصراوية . نسمع عن قوته ولا نراها فى حياة ومحيط العمدة؛ بطل المصراوية . نرى تأثير قراراته، ولكننا - مع العمدة - لا نعرف كيفية صنع تلك القرارات . وفى لحظاتٍ يعطينا أسامة أنور عكاشة لمحات سريعة عن قدرة ذلك الحاكم على البطش ، ولكننا لا نرى دلائل على العنف ولا آثارًا للتعنيف .

كل ذلك من تجليات وصول موهبة ومعرفة أسامة أنور عكاشة إلى قمتها - والمصراوية ، كما قلنا فى أول هذه السلسلة ، هى آخِر العنقود من إنتاجات أسامة .. التجلى هنا أن أسامة فى تصوير ذلك الحاكم بكل تلك القدرة ومع التلميح بالسطوة، لا يدفعنا ببساطة إلى كره ذلك الحاكم الغريب . أسامة فى تلك المرحلة الأخيرة من عمله أذكى من اللعب على مشاعر بسيطة أحادية . أسامة يُعقد علينا صورة ذلك الحاكم ؛ لأننا نرى أن فعل ذلك الحاكم فى بلادنا ، فيه ما يزيد الخير وينمّى الثراء ويقدم المجتمع . أسامة لا يعطينا شخصية مبهورة بالأجنبى لتقول تلك الأشياء . على العكس، أسامة يجعل من التطورات الزراعية والصناعية وفى البنية التحتية التى يُصممها ويشرف عليها الإنجليز، خلفية الدنيا الجديدة التى دخل إليها العمدة عند انتقاله إلى وسط الدلتا.

أسامة يرمينا فى دائرة أجنبى يحكمنا، يأخذ من خيراتنا، يتحكم فينا، ويتنفذ علينا، ولكنه يضيف ويزيد من قوة الدفع نحو التقدم الذى نرى فيه انتقالنا - مع العمدة، بطل المصراوية - إلى مصر الجديدة، مصر الخارجة من حقول الزراعة فى كفور الدلتا الواصلة إلى القاهرة الخديوية ، والناظرة عبر البحر الأبيض المتوسط إلى أضواء باريس وفيينا ولندن.

أسامة هنا كاتب واثق محلق من سماوات الموهبة على أعماله السابقة يعطينا إشارة إلى أن السؤال المطروح سؤال متكرر . سؤال طرحه أسامة من قبل بأشكال مختلفة فى أعمال أخرى ، لكنه هنا - والغالب أنه أدرك أنه يكتب عمله الأخير- يريد أن يتركنا مع السؤال لنعطى نحن أجوبة مختلفة . والتغشيش الذى يرميه إلينا ، أنه وبعد كل المرات التى طرح علينا - وعلى نفسه - ذلك السؤال حول الغريب الأجنبى ، يرى أن الإجابة المثلى هى تلك التى تحتوى التعقيد ولا تتوقف عند ترهل البساطة فى التفكير .

لذلك لم يكن غريبًا أنه فى اللحظة نفسها يعطينا شخصية اليونانى المصرى . اليونانى القادم للحياة - ليس لمجرد الكسب، لكن الحياة والوجود والموت - فى مصر . ذلك اليونانى مثلنا ، بعيد عن السيد الإنجليزى ، قريب منا ؛ ليس فقط فى أسلوب حياته ، ليس فقط فى مكان حياته ، ولكن أيضًا فى وجدانه ، ولكن ذلك اليوناني - من قبل ومن بعد - أجنبى ، وهو رغم قربه منا ، تحت حماية ذلك الغريب الحاكم المتحكم… سؤال أسامة هنا واصل إلى مشاعرنا - ليس نحو الأجنبى الحاكم المشارك فى صنع مصر الحديثة - ولكن مشاعرنا نحو الأجنبى الذى أصبح معنا من مكونات مصر الحديثة .

اليونانى المصرى عقدة فى نسيج أسامة . مرة أخرى نحن أمام التفاف عدد من الخيوط ، بألوان مختلفة ، صانعة شكل يُجبر الناظر للنسيج على أن يتوقف أمامه . إنه شكل جميل ، مريح ، وأحيانًا مبهج ، والمهم أنه مألوف .. لكنه مع قربه ، ليس غريبًا فقط ، ولكنه نتاج عمل الأجنبى (الغريب) الأكبر الأبعد ، ذلك الحاكم المتحكم .

والآن ، بعد أن أوقفَنا أسامة أمام تلك العقدة ، يقفز إلى مساحة أخرى فى النسيج . إلى أجنبى آخر ، غريب آخر ، الأرستقراطى العثمانى الذى أتانا من قرون كثيرة ، ولكنه استوطن بلادنا مع عز مشروع محمد على . هنا يفك أسامة أنور عكاشة خيوط القماش ليُرينا تفاصيل عقدة جديدة فى الوجدان المصرى ، عقدة بادئة من الدين وواصلة إلى مكان وسط بين الشرق والغرب ، مكان عائم بين الشام وغرب آسيا والبحر الأبيض المتوسط . مكان تقف مصر فيه تفكر ، وتنظر ، هل هذا مكانها الطبيعى ، أم أنها فى الحقيقة فى ذلك المكان تائهة - كما يقول المثل المصري : لا هى هنا ولا هى هناك . أسامة يقدم تلك العقدة الجديدة فى النسيج مستخدمًا واحدة من أجمل وأذكى أدواته : قصة حب - كما سنرى فى الحلقة المقبلة.