حديث المرة السابقة كان عن غريب جاء من بعيد – الحاكم الإنجليزي - حكم ارضنا و هو بعيد عنا روحًا و وجدانا ، و بقى و أخذ ، و أعطى و أثر ، ثم أخيرًا ذهب و ابتعد ، و هو في كل ذلك غريبًا لا نعرف .

حديث هذه المرة عن غريب أخر – الارستقراطي التركي او العثماني . غريب جاءنا من قرون ، لكن تداعيات مشروع محمد علي – التي غيرت شكل مصر و الشام السياسي و الاجتماعي – جعلته (الارستقراطي العثماني) ينزل من عليائه ليكون بيننا . و النزول كان أحيانا خسارة لقوة و أحيانًا شهوة وراء المزيد من القوة .

كما انتهينا في الحديث السابق ، أسامة يفتح لنا باب الارستقراطي التركي في الوجدان المصري من خلال قصة حب – و هي محور أساسي في المصراوية .

في الصورة التي قدمه أسامة لنا بها ، عمدتنا القادم من جنوب الدلتا بعيد عن وله العشق (و هو كالنار فيه من الحرق ما فيه من نور) و بعيد عن السير بلا حساب وراء الملذات (و هي فيها من الدمار ما فيها من الامتاع).

حتي هذه اللحظة في المصراوية العمدة رجل طموح رأى المتغيرات الحادثة امامه ، فخرج الى وسط الدلتا طالبًا مالًا و جاهًا ، و الاثنين اهم وجوه القوة .

لكن هنا ، بعد ان ثبت العمدة اقدامه في الدلتا ، و هو على وشك ان يدخل القاهرة و الإسكندرية ، أسامة يأخذنا الى عمق بطل الحكاية . الى وجدان العمدة . و الطريق ، نوراي .

الاسم دلالة على النور ، لكنه ليس نورًا ساطع على الجميع . انه نور لمن يصل اليه النور - و من يفهم فيستقبل النور . ياء الملكية في أخر الاسم ليست صدفة . نوراي نور سيُنير طريق العمدة . و النور لابد ان يصل للعقل و للوجدان . احدهما لا يكفي . طريق الهداية التقاء الاثنين .

نوراي جميلة ، و الجمال – على هذه الدرجة - قوة لا يعرفها العمدة . قوة تأخذ العين فلا تعرف كيف تتركه . قوة تأخذ العقل فلا يعرف كيف يعقله .

قوة جمال نوراي في عقل عمدتنا انه جمال قريب بعيد ، جمال يعرفه و لكنه مع ذلك غريب . نوراي التركية ، لكن ذات عرق مصري ، فيها من سحر الشرق و رقي الغرب ، فيها لمحة من سمرة النيل و لمحات من غيوم شمال البحر الأبيض المتوسط . و المهم فيها قليل مما ترسب من التجربة المصرية و هذا يلاقي وجدان العمدة ، و فيها الكثير من التراث التركي العثماني (في رونقه الإمبراطوري) و هذا جديد على العمدة .

مشهد اللقاء ذكي . أسامة يجعل العمدة واقفًا في قلب بيت جد نوراي – الارستقراطي التركي – بينما نوراي نازلة من الطابق العلوي لترى الضيف . في الظاهر هو الثبات و هي الحركة . لكن في الداخل ، ظهورها يحركه ، و هي في داخلها هناك ما يُثبت روحها من ذلك الثابت القادم من قلب الدلتا ، و تلك ارض تسمع عنها و لكن لا تعرفها .

هناك تعبير رغبة يعطينا أسامة إياه بسرعة – من انتقال التقاء العينين في كادر الكاميرا الى همسات خافته من الشفاه . تلك لحظة القبول ، قبوله بان يخطو الى عالم جديد ، ان يتغير ، و قبولها بان تحصر ضوءها له .

و هنا جوهر معنى نوراي في المصراوية . رحلة العمدة اخذته من جنوب الدلتا ، نقطة الالتقاء مع الصعيد (حيث مصر المتوارثة أسلوب حياتها الذي لم يتغير على مدى قرون) ، الى وسط الدلتا (حيث بداية لقاء المتوارث بالغريب القادم من بعيد) . لكن النقلة الحقيقية هي الذهاب الى القاهرة (قلب مصر المنظم لحياتها) و الى الإسكندرية (عيون مصر على العالم) . في القلب و في ما تراه العين و ترسله الى العقل ليستوعبه ، تتشكل حقيقة الحياة . و لذلك هنا ، يقابل العمدة نوراي .. القديم القادم من العمق في الجنوب يقابل الجديد القادم على السطح من الشمال . الطمي المندفع مع النيل يلاقي الهواء العابر للبحر الأبيض حاملًا معه النسيم الى ارض مصر .. نوراي هنا هي المستجد الذي استوطن مصر بعد التغيرات المهولة التي احدثها محمد علي و إبراهيم و إسماعيل باشا . نوراي هي الغريب الذي سيمتزج بالأصيل .. أسامة أنور عكاشة يجعل من زواج العمدة من نوراي قفزة في عقل العمدة و تغير حاسم في وجدانه ، في ذات اللحظة التي سيتحول فيها العمدة – و هو على وشك دخول القاهرة - الى تمثيل للوجدان المصري .