كمًا رأينا في المقال السابق من هذه السلسلة ، زواج العمدة من نوراي كان التقاء الوجدان المصري المتوارث بوجدان تركي عثماني أخذ الكثير من الثقافة الأوروبية بعد انطلاقاتها الواسعة في عصر النهضة و ما تلاه . قصة الحب و الزواج كانا لابد ان يجيئا مباشرة قبل دخول العمدة القاهرة . رحلة العمدة من جنوب الدلتا الى وسطها ، توسع ادراكه و فكره بعد لقاء مصريين من خلفيات مختلفة ، من الصعيد و من بحري ، بعد الحديث مع أجانب بدأوا يستوطنوا الدلتا في تلك الفترة ، و بعد اتساع تجربته من دنيا القرية و الزمام الذي حولها الى عالم طنطا و ما فيها من تجارة و اقتصاد اكبر و سياسة اعمق ، نقلوا وجدان جنوب الدلتا الى مكان أخر . استوعب العمدة مصر التي لم يعرف من قبل . لكن مع نوراي طار وجدانه عابرًا البحر الأبيض المتوسط ، و مع التحليق أخذ وجدانه من نسيم البحر و رونقه ما وازن به المتوارث فيه من طمي النيل و ثقله .

بعد ذلك الاستعداد سمح أسامة أنور عكاشة للعمدة ان يدخل القاهرة . انه دخول العارف و ليس الجاهل الى قدس الاقداس . انه دخول الواثق و ليس المنبهر الى القصور و الحدائق . بعد رحلته من جنوب الدلتا وصولًا الى القاهرة ، عمدتنا في هذه اللحظة قد تعدى مرحلة الاستيعاب و دخل في مرحلة العطاء .

أسامة يُدخِل تغيرات بسيطة لكنها ذات معنى على شكل العمدة . ليس فقط شعيرات بيضاء هنا و هناك ، لكن الأهم هدوءا في صوته ، ثقة في تحركاته ، و تقديرًا اعمق في كلامه . و كانت اول من لاحظ تلك التغيرات امه – تلك السيدة التي التقينا بها من قبل في هذه السلسلة – و هي عمق الوجدان المصري في شمال الصعيد و جنوب الدلتا – هي التي رأت و فهمت .. و الجميل انها و هي تقول لابنها ما لاحظته ، لا تعطيه هو فضل ما وصل اليه ، و لكنها (بمزيج من رفعة الذكاء الانثوي و حكمة العمر المتقدم) تخبره بانه قد كَبُر في السن و المقام و كبُرَ في الداخل ايضًا ، و تربط ذلك التغير في الداخل بنوراي ، بزوجته ، بتلك السيدة الحاملة في عقلها و اعماقها وجدانًا اخر .. هنا أسامة أنور عكاشة يعطينا الوجدان المصري عارفًا بقيمة ما اتاه ، واثقًا في قدرته على استيعابه و جعله جزءًا منه . ذلك الوجدان في اتساعه هو ما يمثله ، ما يُجسده ، العمده و هو يدخل القاهرة .

تلك هي لحظة القمة في المصراوية . أسامة يدفع بالعمدة ، بعد تلك الرحلة الطويلة ، الى القاهرة و هي على وشك ان تدخل هي الأخرى في رحلة تغير . نحن هنا في نهايات القاهرة الخديوية و بدايات قاهرة المملكة المصرية . مصر قد خرجت من مرحلة التغيرات الكبرى تحت محمد علي و إبراهيم و إسماعيل باشا الى مرحلة عيش ما قد احدثته تلك التغيرات . و في التغيرات عزًا و جاهًا – سطوعًا لا يضاهى على كل الشرق - كما ان في التغيرات خوف و قلق – من قوى غربية ، غريبة تُحرك من بعيد و تسيطر و إن بقفازات من حرير .

لذلك ليس غريبًا ان يجعل أسامة أنور عكاشة اول احاديث العمدة في القاهرة تدور حول الفرص المهولة البادية في مصر في تلك اللحظة – من عمران جديد ، صناعات و زراعات لم تعرفها البلد من قبل ، و تجارة واسعة تربط الشام و الجزيرة العربية و تركيا بمصر ، و مع ذلك بدايات تجارة اهم تربط القطن المصري بمصانع انجليزية عملاقة أسواقها هي كل العالم آنذاك . هنا أسامة أنور عكاشة يجعلنا نرى ، مع العمدة ، كيف كانت قاهرة تلك الآيام أهم محركات اقتصاد الشرق العربي و واحدة من المراكز ذات الوزن (و ذات القدرة الاحتمالية) في الاقتصاد العالمي .

لكن أسامة يجعلنا أيضا نرى مع العمدة انه – و بالرغم من اكتمال وجدانه بعد رحلته الطويله و بعد التقائه بنوراي – يعرف و يفهم ، و لكنه لا يملك تمام الملك . العمدة يشعر ان كَبُر في الفكر و المعرفة و التجربة و الثراء ، و لكنه يرى بوضوح ان القاهرة التي اتاها فيها من القوى ما هو اكبر منه كثيرًا ، و ان اغلب تلك القوى غريبًا عنه .

الذكاء هنا ، ان أسامة لا يجعل عمدتنا يقفز بحماسة الشباب قاصدًا الحرب على الاستعمار و المصالح الأجنبية في مصر . أسامة يجعل العمدة اكثر هدوءا في النظر في الأوضاع التي يراها حوله . يجعله يرى الثراء المحتمل (لنفسه و عائلته و مجتمعه) كما هو يرى التقيد بقواعد مفروضة عليه ، يجعله يشعر بان الكثير مما حوله فيه تقدم له كما يشعر ان في ما حوله انتقاصًا مما يعرف انه ملكه .

وسط تلك القاهرة المتغيرة الجديدة ، الخارجة من العصر الخديوي ، و بين احتمالات النمو و التقدم و الثراء و بين تكبيلات المصالح الكبرى ، يبدأ عمدتنا – و معه نوراي – رحلتهما المشتركة في عالم القاهرة الملكية .