كان لابد للنور الهادي و نسيم البحر القادم من الشمال (نوراي) ان يقابل الماء المتدفق و الطمي القادم من الجنوب (العمدة) في القاهرة – نقطة التقاء الوادي مع الدلتا ، نقطة المركز التي يتفرع النيل – شريان حياة مصر – بعدها .

القاهرة هنا أرض الميعاد التي اتاها العمدة بعد رحلته الطويلة ، مكان اكتمال وجدانه و عبوره محدودية ذاته ليلتحم بمن ستكمله .

القاهرة ليست فقط مكان اللقاء ، بل صاحبته . القاهرة مالكة الوجدان ، و ربما ملكته . فهي ليست صدفة ان نقطة لقاء الوادي مع الدلتا ، نقطة مركزية النيل قبل تفرعه ، هي منذ الأزل عاصمة بتاح اله الوعي عند المصريين القدماء ، هي هليوبوليس ، مدينة الشمس على أرض مصر – و مصر عند من فهموها ، منذ القدم ، تصوير السماء على الأرض ، تمثيل الفلك و ربما استيعابه على ارض مقدسة . القاهرة إذن ارض كل ميعاد بين الشمال و الجنوب ، بين النسيم و الطمي . القاهرة مكان كل اكتمال لوجدان مصر .

القاهرة هنا في حلتها الملكية . خرجت لتوها من العصر الخديوي . لبست الجديد ، و ابتعدت كثيرًا عن الجبل و القلعة و المزارع المخصبة بالسواد العفي المتدفق من الجنوب . كما انها ابتعدت كثيرًا عن قصور و مدارس و مساجد مماليكها . العصر الخديوي رفع عيونها نحو البحر الأبيض و ما بعده ، و كان بعد ان رأت ان ابتسمت سيدة الشرق (نقطة المركز ، جوهر الوجدان) لذلك السيد الواثق الطالب المجد له و لها – إسماعيل باشا .

صحيح ان إسماعيل خسر رهانه – و كان كجده محمد علي كما سيكون من سيهدم ملك عائلته بعد عقود (جمال عبد الناصر) – غير قادر على فهم تقدير القوى الكبرى لمعنى صعود مصر . إسماعيل ذهب بعيدًا ، الى إيطاليا ثم الى تركيا ، و مات بعد سنين مريضًا حزينًا ، ليس فقط على ضياع الملك و لكن أيضًا على تسرسب الحلم . لكن خسارة الرهان لم تنهي انتقال القاهرة من حال الى حال .

القاهرة التي اتاها عمدتنا كان عاصمة اهم ممالك الشرق . كان السيدة الثابتة في موقعها بعد ان هوت إسطنبول في بحور من الارتباك إثر ضياع امبراطوريتها ، و بعد ان زحف الفقر و الخوف على دمشق و بيروت في اعقاب الحرب العالمية الأولى .القاهرة وقتها كانت قبلة و ملاذ مئات الألوف من الهاربين من الفقر او الدمار في الشام و الجزيرة العربية و القوقاز و أرمينيا و جنوب أوروبا و من جزر البحر الأبيض كمالطا و قبرص .

لكن أهمية القاهرة هنا كانت في ما هو اكبر من مشروع سياسي بدا كحلم بعد سقوط الدولة العثمانية ، و اهم من بدايات ثراء حمل في طياته احتمالات تحولات اقتصادية كبرى ، و أيضًا اهم من الاستقرار وسط شرق بدا كبحر تملأه أمواج عاتيه .. الأهمية كانت في ريادة مصر وقتها – و في قلبها ملكة الوجدان ، القاهرة - لنوع جديد من الثقافة الشرقية ، استوعبت ما سبق و شكل الماضي و لكنها جرت نحو الجديد الذي يُشكل الحاضر .

سيدة الشرق وقتها فتحت خزائنها من التاريخ الغني فملأت عطور الافكار الأجواء و تلألأت جواهر من الفن في المرايا و العيون و في خيال من غاصوا وقتها في وجدان سيدة الشرق . و في نفس اللحظة التي فتحت فيها خزائن التاريخ فُتِحت الأبواب ، فجاءت من الشام و الجزيرة و من شطآن البحر الأبيض المتوسط عطور جديدة و جواهر أخرى .

و كانت العبقرية (كما ابدع في شرحها بعد ذلك بعقود جمال حمدان) في ان المكان ، في تلك اللحظة الفوارة ، استمر يعبر عن التاريخ ، كما ان الحاضر ، كما كان في عصور مضت ، استمر يمثل الجغرافيا .

و كان بيت عمدتنا و نوراي على نهايات وسط المدينة الخديوية هو رمز تلك القاهرة ، كما سنرى في المقال القادم .